انشغلت القاهرة مؤخرا بما يمكن دعوته بظاهرة الشيخ محمد العريفى، وخطبته الحاشدة فى جامع عمرو بن العاص بمصر القديمة. وهو شيخ فاره الطول، ممشوق القامة، فى الثالثة والأربعين من عمره، عف اللسان، حلو الكلام، لا تشوِّه جبينه زبيبة قبيحة ككثير من أقرانه من السلفيين فى مصر، على الرغم من أنه لا يقل عنهم تديُّنا أو سلفية أو صلاة. وكشف معظم التعليقات على زيارته، والإقبال المتزايد على الصلاة خلفه فى جامع عمر بن العاص، عن أنه قد هزم أقرانه فى عقر دارهم، وكسب قلوب المصريين الذين ينفر كثير منهم من فظاظة أقرانه من سلفيى مصر. لأنه آثر أن يحتلّ المكان الأخلاقى الأعلى فى خطاب التأسلف. فأين خطاب محمد العريفى عفيف الألفاظ الذى يتغزل بفضائل مصر وتسامحها وأفضالها على جيرانها، من بذاءات وسخائم أدعياء يسمون أنفسهم دعاة لمجرَّد أنهم أطلقوا لحاهم، وتمادوا فى حك جباههم كى يَسِمُوها بزبية فاشية لا علاقة لها بورع الصلاة، ولا بطهارة المصلين؟ أين طلاوة حديث العريفى وهدهدته لعواطف سامعيه وتذكيرهم بما لهم من ماضٍ عريق وسؤدد، من سوء ملافظ أقرانه من سلفيى مصر وركاكة خطابهم، وتكفيرهم لكل من لا يسلم بجهلهم أو تفسيراتهم المختلة للدين؟ لكن الطريف فى الأمر -وكنت قد تناولت فى مقال الأسبوع الماضى دور السعودية فى ما يسمى بالمؤامرة الصهيوأمريكية على مصر باعتبارها الركيزة الثالثة للمخطط الأمريكى، وكيف أن هذه الركيزة تعتمد على إبراز دور السعودية وتكريس مكانتها على حساب دور مصر ومكانتها فى المنطقة- أن ما قام به العريفى وما دفع الكثيرين للثناء عليه، لا ينفصل عن هذا المخطط، بل يصب فيه. فها هو داعية سلفى سعودى ينجح فى ما فشل فيه أدعياء يسمون أنفسهم دعاة فى مصر. ويثبت فضل السعودية على مصر لأنه يعرف أن خير سبيل إلى قلوب سامعيه هو التغنى بأمجادهم القديمة، شريطة أن يؤكد لهم أنها أمجاد قديمة، لا وجود لها فى حاضرهم التعيس. وإلا فلماذا يحتفون بسلفى سعودى، لا يختلف خطابه من حيث الجوهر عن خطابات السلفيين المصريين، بينما تمتلئ الصحف بالشكوى من سلاطة ألسنة جل السلفيين المصريين وضيق أفقهم وتآمرهم على المصريين؟ وقد تجلت آخر تلك المؤامرات فى نجاحهم فى تمرير خططهم المسمومة فى الدستور كما كشف ياسر برهامى فى حديث أخير. فالشيخ العريفى ليس بأى حال من الأحوال صوتا للعقل فى عالم يتفشى فيه الخبل والجهل. وليس لديه مشروع مغاير ينقذ به مصر من محنتها، أو يخلصها من شراك تلك المؤامرة الصهيوأمريكية التى ينفذها الإخوان فيها. ولكنه الوجه المضىء لنفس الخطاب السلفى الظلامى الذى يدعو إلى تغييب العقل. أو هو التجسيد الحى لما يُعرَف فى السياسة الأمريكية بالشرطى الطيب، فى التعامل مع الأمور أو الأزمات من خلال ثنائية «Good cop/ Bad cop» (الشرطى العنيف والشرطى الطيب). وهو منهج أمريكى واضح يوشك أن يكون النظير الأميركى للمنهج الإنجليزى الشهير فى الحكم من خلال شعار «فرِّقْ تسُدْ»، حيث يتم فيه التعامل مع أى موقف صعب من خلال توزيع الأدوار، فيقوم أولهم بالتهجم الشرس على الخصم والعنف معه حتى يزعزع ثقته بنفسه، بينما يلجأ الآخر إلى اللطف والملاينة من أجل تحقيق الغاية نفسها. فلا تلجأ الشرطة الأمريكية، والسياسة الأمريكية عموما من ورائها، إلى الشرطى اللطيف الطيب، إلا بعد أن يكون الشرطى الردىء الشرس قد قام بالدور العنيف الذى يجعل نجاح الشرطى الطيب مضمونا. وهذا بالفعل ما حدث فى حالتنا هذه، حيث قام سلفيو مصر بدور الشرطى الردىء، الذى تمادى فى عنفه ورداءته حتى ضاق به الجميع منذ بداية الثورة، حيث لم يكن يُسمع لأى منهم صوت قبلها اللهم إلا تحريم الخروج على أولى الأمر، وحتى الآن. وانهالت القضايا والأحكام على قنوات التأسلف الرديئة بعدما ورطت مصر ابتداءً فى أحداث الفيلم التافه المسىء للرسول الكريم فى ذكرى أحداث 11 سبتمبر الشهيرة، وليس انتهاء بكشف تآمرهم على الدستور الباطل الركيك فى اعترافات برهامى الأخيرة. وقبل أن تؤدى تصرفاتهم إلى نزع شرعيتهم وتشويه سمعة التأسلف كلية، ها هو الشرطى الطيب يتقدم ببسالة لإنقاذ الموقف. فمَن إذن هذا الداعية السلفى الجديد الذى نجح فى ضرب عصفورين بحجر واحد، إنقاذ سمعة السلفية من براثن الدبة التى قتلت صاحبها، بالقيام بدور الشرطى الطيب، والمساهمة فى تأكيد المقولة المغلوطة المراد ترسيخها، بأن يد السعودية هى العليا، على الأقل فى مجال الدين بطبعته الوهابية التى يروج لها السلفيون فى مصر؟ هو حسب «الموقع الرسمى لفضيلة الشيخ الدكتور محمد بن عبد الرحمن العريفى» ابن جامعة الإمام محمد بن سعود، معقل الوهابية الحصين. فيها درس وفيها تَخرَّج (1991) وحصل على الماجستير (1996)، ثم الدكتوراه برسالة عنوانها «آراء شيخ الإسلام ابن تيمية فى الصوفية، جمع ودراسة» عام 2001، ويعمل بالتدريس بها منذ عام 1993 حتى الآن. وابن تيميه الذى تَخصَّص فيه هو شيخ ابن عبد الوهاب، ومصدر كثير من أفكار الوهابية. والعريفى فى ما يبدو شيخ سلفى عصرى، فله موقع على الإنترنت، أى أنه يتعامل مع رجس التكنولوجيا الغربية ويستفيد منه إلى أقصى حد، بما فى ذلك خدمة الجوال التى تجمع له الأموال. ومن آيات عصريته أيضا أنه كتب رواية بعنوان «صرخة فى مطعم الجامعة: رواية حول الحجاب وأدلّته» طُبع منها كما يقول الموقع أكثر من مليون نسخة. كما أنه عضو فى المنظمة المسماة بالاتحاد العالمى لعلماء المسلمين. وهى كلها مؤهلات تجعله جديرا بلعب دور الشرطى الطيب، بعد أن ضاقت مصر بجهالات فيالق من الشرطة السلفية الرديئة من عينة عبد الله بدر، ودعوات أمثال مرجان الجوهرى المخبولة لهدم الأهرام وأبى الهول. نحن إذن بإزاء الوجه الآخر لنفس العملة. وقد كشف إبراهيم عيسى فى برنامجه الشهير «هنا القاهرة» بالصوت والصورة، عن أن منهج نفاق المستمعين ودغدغة عواطفهم الوطنية، ليس أمرا خص به محمد العريفى مصر، ولكنه أسلوبه المعهود يستخدمه فى مغازلة مشاعر اليمنيين حينما يخطب فى اليمن، أو الشوام حينما يخطب فى سوريا. فالهدف الأساسى الذى يريد كل من الشرطى الردىء والشرطى الطيب معا تحقيقه هو نشر تلك الدعوة الوهابية التى جاء العريفى من قلعتها الحصينة، والتى تَكوَّن فيها فكرا وممارسة. ولهذه الهجمة الوهابية المستمرة على مصر منذ منتصف سبعينيات القرن الماضى حتى الآن، عدة أهداف وثيقة الصلة بالمؤامرة الصهيوأمريكية على مصر، وبما يدور فى مصر ويُحاك ضدها فى هذه الأيام. فحتى تتخلى مصر عن دورها القيادى فى المنطقة كى تنهض به السعودية كان لا بد من تحقيق من الخطوات التى تهدف فى مجموعها إلى خلق حالة من التردى فى مصر، وسياق من التقدم فى السعودية تمكن هذا الوضع المقلوب، أن يصبح أمرا طبيعيا ومقبولا. لذلك بدأت هذه الهجمة، وقد دعمتها قفزة أسعار النفط الجبارة عقب حرب أكتوبر 1973 بمجموعة من الإجراءات التى ترتب عليها عدد من الظواهر التى نعانى منها حتى اليوم. بدأت بتفريغ مؤسسة الجامعة المصرية من أفضل عقولها وخير أساتذتها، وفتح بال العمل أمامهم فى مختلف جامعات الجزيرة العربية والخليج، بعدما تكفل انفتاح السادات المشؤوم بخلق آليات تضخم مسعور تدفع كل إنسان إلى البحث عن النجاة الفردية. وقد تَوَاقَتَ تفريغ الجامعة من عقلها مع آليات المناخ الطارد الذى ضيَّق الخناق على قطاع كبير من المثقفين، ودفعهم إلى الهجرة بحثا عن العمل أو الرزق. لأن حجر الزاوية فى كل تلك الخطوات كان تغييب العقل النقدى الحر، كى يفسح المجال مع تبنى شعار «دولة العلم والإيمان» لإحلال التدين الغيبى المشغول بسفاسف الأمور مكان التدين العقلى الذى ينهض بالإنسان والمجتمع معا. وبدأت موجة التأسلم بنشر الحجاب الذى لم يكن له أى وجود يُذكر فى مصر حتى منتصف سبعينيات القرن الماضى، مع ظهور رأس حربة التأسلف محمد متولى الشعراوى، وتمكينه من منابر الإذاعة والتليفزيون، التى كانت تخضع لقدر كبير من التحكم السياسى، وتزايد نفوذه بعد نجاحه فى تحجيب عدد من الفنانات الشهيرات. وكانت غاية تلك الهجمة الأولى التى تواصلت فصولها لأربعة عقود هى القضاء على الطبقة الوسطى المصرية، لأنها هى الطبقة الحاضنة لمجموعة القيم العقلية والأخلاقية، والمستفيدة من مسيرة الإصلاح والتقدم والدافعة له. كما تم الإجهاز على جل مكتسبات المرأة التى حققتها عبر مسيرة طويلة من النضال من أجل التحديث والحرية. وقد ساهمت سياسات الانفتاح «السداح مداح» فى تآكل مكتسبات هذه الطبقة الوسطى بوتائر متسارعة، فى عهد مبارك، خصوصا مع تنامى معدلات الهجرة من الريف للمدينة مع تفاقم الأزمة الاقتصادية، وظهور كل أشكال الإسكان العشوائى، مما أدى إلى عملية ترييف المدينة فى ظل غياب التنمية المتوازنة التى تأخذ فى اعتبارها كل الجوانب الاقتصادية والتعليمية والثقافية فى مصر لسنوات طويلة. وقد تضافرت الهجمة الشرسة على الطبقة الوسطى، والإجهاز على مكتسبات المرأة، وترييف المدينة لخلق مناخ ملائم لازدهار الأفكار الوهابية، وتدعيم عملية التصحير العقلى فى مصر، كجزء من مؤامرة إحلال المملكة السعودية محل مصر كقائدة للعالم العربى، وكنموذج له، فى ما عُرف باسم «الحقبة السعودية»، خصوصا وقد رافق غيابَ أى تنمية فى مصر تسارُعُ معدلات التنمية فى السعودية نتيجة لتدفق عوائد النفط بمعدلات غير مسبوقة، فى عملية استبدال الثروة النفطية بالثروة العقلية التى مثلتها مصر عبر تاريخها الطويل، فبينما كانت ترتفع أسعار كل شىء، كانت قيمة العمل العقلى، خصوصا ثمار العقل النقدى، تحاصَر وتتدنى باستمرار. فى الوقت الذى كانت تتدفق فيه الأموال على دعاة تغييب العقل ونشر الفكر والممارسات الوهابية. وحينما بدا أخيرا مع الثورة المصرية أنه قد آن الأوان للتغيير، ضاعفت الهجمة الوهابية من شراستها، وزودت أدعياءها بالفضائيات المتعددة، وهذا هو سر تصاعد تلك الهجمة من ناحية، وتنويع خطاباتها بما فى ذلك تزويده بشرطى جيد حلو الحديث، كى تبقى مصر مكبَّلة بسفاسفها، وغير قادرة على التخلص من مباءة المكان الذى تريده لها السياسة الصهيوأمريكية فى المنطقة.