لم يكن الانحياز المصرى، شعبًا وقيادة، للقضية الجزائرية فى مواجهة الاستعمار الفرنسى الاستيطانى ينطوى على أى نوع من الترف أو الاستعراض، إذ كان الثوار الجزائريون يعيشون فى القاهرة، ويديرون أمر تدبير الكفاح المسلح بالاتفاق مع القيادة المصرية، التى كانت بدورها تتعاون بكل طاقتها فى هذه القضية العادلة، وكان على رأس هؤلاء الثوار أحمد بن بيلا، الذى أصبح بعد قيام الثورة، وحصول الجزائر على استقلالها عام 1962، أول رئيس جزائرى فى الدولة المستقلة. وكانت القاهرة تشارك الثوريين خطوة خطوة، ومنذ إعلان الكفاح المسلح فى الجزائر، على القوات الفرنسية المحتلة، كانت الصحف المصرية لا تتوانى عن نشر تفاصيل الثورة الجزائرية بامتياز، وكانت التحقيقات الصحفية، والدراسات السياسية، والبورتريهات عن كل قيادات الثورة، لا تغيب عن الصحافة المصرية بشكل يومى، وكانت صحيفتا المساء و الجمهورية على وجه الخصوص، تخصصان مانشيتاتهما دومًا للقضية الجزائرية، على اعتبار أن القضية ليست جزائرية محلية فقط، بل إنها قضية عربية ذات طابع إنسانى كبير. وإذا كانت القيادة السياسية المصرية ودعمها الدائم للثورة الجزائرية، كان واضحًا بقوة على مدى عقد كامل، فالكتّاب والمثقفون المصريون لم يفوّتوا مناسبة صغيرة أو كبيرة للتعريف بالكتّاب والفنانين والشعراء الجزائريين، والقضية الجزائرية. ولم يكن القارئان المصرى والعربى، يعرفان سوى النادر عن الأدب الجزائرى، حتى كتب الدكتور طه حسين مقاله الشهير فى جريدة الجمهورية عن رواية الربوة المنسية المكتوبة بالفرنسية، للكاتب مولود معمرى، وقد نالت الرواية آنذاك تقريعًا ونقدًا سلبيًّا من الجزائريين أنفسهم، واتهموه بأنه أغرق فى الكتابة الغرائبية، وأفرط فى الكتابة المحلية، وصرَّح معمرى تصريحات واضحة فى الفن أزعجت الكتّاب المتشنجين بالواقعية الساذجة، وكاد هذا التشنج الواقعى أن يطيح بمعمرى وكتابته، فأرسل معمرى كتابه إلى طه حسين فى القاهرة، فكتب عنه مقالًا منصفًا أنهاه ب: صاحب هذا الكتاب أخ لنا من أهل الجزائر، لا أعرفه ولا أكاد أحقّق اسمه الذى يحمله كتابه هذا مكتوبًا باللغة الفرنسية.. وكتابه رائع أشد الروعة وأقصاها، بحيث يمكن أن يعد خير ما أخرج فى الأدب الفرنسى فى أثناء هذه الأعوام الأخيرة... ، وراح طه حسين يستفيض فى قراءة الرواية، ويتمنّى أن تحصل على إحدى الجوائز الكبرى فى فرنسا، وكتب المقال فى عام 1954، وبعدها بدأت حملة واسعة للتعريف بالأدب الجزائرى. ونشرت مجلة الرسالة الجديدة مقالات عن كاتب ياسين، وكتب الناقد الفنى والأدبى -آنذاك- أنور عبد الملك، سلسلة مقالات فى مجلة المجلة عام 1957 عن محمد ديب وكاتب ياسين ومولود فرعون ومولود معمرى وغيرهم، وصدر كتاب عن سلسلة اقرأ عام 1958، عنوانه الأدب الجزائرى للناقد إبراهيم الكيالى، وتمت ترجمة أعمال قصصية وروائية لكتاب جزائريين، مثل مجموعة فى المقهى لمحمد ديب التى كتب عنها يحيى حقى. وكانت القضية الجزائرية على المستوى الثقافى والفنى تتسع بدرجات قصوى فى القاهرة، ويزداد الاهتمام بها، والتعريف بتفاصيلها يومًا بعد يوم، ومن بين هؤلاء حظى الكاتب الروائى مولود فرعون باهتمام خاص جدا، إذ بدأت صحيفة المساء المصرية نشر كتابه يوميات معركة الجزائر مسلسلًا، بعد أن ترجمه للمرة الأولى إلى اللغة العربية الكاتب والصحفى عبد العاطى جلال، وكان فرعون قد اغتالته رصاصات القوات المسلحة الفرنسية فى 15 مارس 1962 على أرض الجزائر، إذ إنه كان أحد العناصر الثورية الخطيرة بالنسبة للاستعمار الفرنسى، فلم يجدوا سوى تصفيته واغتياله. وقد صدرت لمولود عدة نصوص بحثية وإبداعية، كان أولها أيام قبائلية وهو كتاب لرصد عادات وتقاليد الجزائريين الأمازيغ، وصدر عام 1954، ثم روايته التى نالت اهتمامًا عالميا، وهى رواية ابن الفقير ، وهى تسجل ما يشبه السيرة الذاتية، بالإضافة إلى روايته الرائعة الدروب الوعرة ، وهى من أولى الروايات التى انشغلت بقضية المسيحيين الذين يعانون من رجعية العادات والتقاليد، وصدرت له عدة كتب أخرى، كان آخرها هذا الكتاب الذى نشر فى فرنسا فى عام استشهاده، ونشرته القاهرة فى صحيفة المساء . وكان كتاب معركة الجزائر عبارة عن يوميات الثورة، يسجلها يومًا بيوم، وفى إحدى الحلقات التى نشرت فى 15 ديسمبر عام 1962، يقول فرعون فى 24 فبراير: قتل خمسة فى آيت-فراح، إنه القدر، واحد فقط حاول الهرب، ويبدو أنه قد دافع عن نفسه قبل أن يسقط، ويبدو أن هذا الشاب قدّم نفسه ضحية كى يحاول حماية هاربين آخرين.. وفى تامزاريت قتل سبعة، كما أن شابا كان مقبوضًا عليه وترك مطلق السراح فى المعسكر، فضربوه بالرصاص، بينما كان يجرى لالتقاط بالونة قذفها أحدهم بقدمه وأمره أن يعيدها إليه . هامش عندما دعتنى وزارة الثقافة الجزائرية للمشاركة فى الاحتفال بمرور خمسين عامًا على استشهاد مولود فرعون، كان الاحتفال مهيبًا، وبذلت الدولة مجهودًا كبيرًا فى إخراج هذا الاحتفال على أكمل وجه، وشارك كتاب جزائريون كبار، مثل رشيد بوجدرة وحبيب السايح وغيرهما، كما أن كتّابًا فرنسيين ومنحازين للقضية الجزائرية تمت دعوتهم لحضور الاحتفال، هذا الاحتفال شمل دراسات وبحوثًا فى أدب فرعون، وأُقيم معرض خاص بكل الطبعات الفرنسية والترجمات العربية وغير العربية لكتب فرعون، وبعد احتفال العاصمة، ذهبوا بنا إلى مسقط رأسه فى تيزى هبل، حيث أهله الأمازيغ، الذين استقبلونا على مشارف القرية وبكل ترحاب وحب، وهم يشعرون بالفخر والاعتزاز بكاتبهم العظيم، ووقفنا أمام مقبرة الشهيد، وقد أطلقت القوات المسلحة 21 طلقة تحية للشهيد، وعزفت الفرقة الموسيقية العسكرية السلام الجمهورى، وجدير بالذكر أن معظم القامات الجزائرية لم تتخلّف يومًا واحدًا عن الاحتفال. وكان معى من مصر الكاتب والصحفى هشام أصلان، وكنا نتبادل كل أشكال الدهشة لهذا الاحتفال المهيب، وبالطبع كنا نفكر ونتأمل فى ما يحدث لكتابنا بعد أن يرحلوا مثل نجيب محفوظ وفتحى غانم وخيرى شلبى وكثيرين من القامات المصرية العظيمة.