فى 16 فبراير 1987 كتب الناقد عيسى مخلوف مقالا نقديا فى صحيفة «اليوم السابع» التى كانت تصدر فى باريس، تحت عنوان «فرنسا تعطى كاتب ياسين جائزتها الوطنية للآداب.. صاحب -نجمة- الرائعة يبحث عن الهوية المستحيلة»، ولأن ياسين ليس كاتبا عاديا، بل إنه أحد أركان الرواية والأدب فى الجزائر، رغم أنه كان يكتب بالفرنسية، مثله مثل كثيرين: مولود فرعون ومولود معمرى ومحمد ديب من الجيل الأول، ثم رشيد بوجدرة وآسياجبار التى رحلت مؤخرا، وغيرهم من الجيل الثانى، ومن المعروف أن الاستعمار الفرنسى الاستيطانى كان قد أكّد نفسه بكل أشكال الغزو والاحتلال، وعمل على محو وإلغاء الشخصية الجزائرية العربية، وكرّس لتدريس لغته الفرنسية، وسيَّد التعامل بها فى كل المعاملات الاجتماعية، لذلك كتب الجزائريون بلغة المستعمر، ولكن بروح جزائرية مقاتلة، ولكن بعضهم صرخ من قسوة هذه اللغة التى أصبحت سجنا لهم، وكان على رأسهم مالك حداد. لقد عشت لمدة طويلة فى فرنسا، وأعرف كيف تفهم هذه الرسالة التى يريد الكاتب الجزائرى نقلها من خلال نتاجه، كيف تتحور وتشّوه، وكيف أن الماكينة الأدبية والصحافية والصالونات والجوائز الأدبية، كيف أنها كلها تفضى، فى نهاية المطاف، إلى مؤامرة كبيرة ضد الجزائر، وضد إفريقيا والعالم الثالث، وكل ما هو نحن ، هكذا قدّم الناقد مقاله بكلمة مؤثرة وحادة وكاشفة عن أغوار كاتب ياسين، الذى كانت تشغله مسألة الهوية الجزائرية المحلية، وبعد أن كتب عددًا من نصوصه المدوّية، وعلى رأسها رائعته الروائية نجمة ، راح يعمل على إحياء اللغة المحكية الجزائرية، وانتقده كثيرون من حرّاس اللغة العربية، تحت زعم أن هذا الإحياء ما هو إلا حيلة استعمارية لتفتيت الأوطان العربية، وكان رده دائما هو تقديم المزيد من عروضه المسرحية، المكتوبة بالمحكية الأمازيغية، والتى كانت تكشف عن هوية جزائرية مكبوتة ومستبعدة ومضطهدة ومهجورة، ويعمل الاستعمار الفرنسى على قتلها لحساب لغته المستبدة . ولم يكتب ياسين عروضه المسرحية بالمحكية الجزائرية الأمازيغية ، إلا بعد أن كان قد ثبّت أقدامه ككاتب جزائرى وطنى عالمى له شأن كبير ومؤثر فى الثقافة الجزائرية والفرنسية على السواء، ولم تمنحه فرنسا الجائزة الوطنية الكبرى للأدب عن كتابه النتاج المجزأ إلا بعد هذا الحضور الطاغى فى اللغة الفرنسية، وهذه الجائزة كان قد حصل عليها فرنسيون كبار فى الشعر والرواية والكتابة الأدبية، ومنهم سان جون بيرس، وبيار جان جوف، ومارغريت يورستار، ولأن الجائزة كبرى ومؤثرة وذات قيمة مرموقة ومعبّرة عن وجهة النظر العامة الرسمية والشعبية، فقد قبلها كاتب ياسين، وكان هناك كذلك من لم يقبلوها، وعلى رأسهم الشاعر الفرنسى المرموق هنرى ميشو. وفى الوقت الذى كان فيه كاتب ياسين يعبّر عن وطنه وشعبه وبلاده المداسة تحت أقدام الفرنسيين، كان يعبّر عن ذاته وحياته المهدورة والمشردة بين البلاد، وكانت روايته نجمة ، هى أحد وجوه التعبير عن هذه الازدواجية الحميمة الذات والوطن ، فالشخصية الغامضة والهائمة والملتبسة والمجروحة فى الرواية، والتى لا يستطيع القارئ اصطياد ملامح قاطعة لها، تعبّر عن ياسين ذاته، وحياته هو المشردة، والتى حاول أن يخلق لها هذا الموازى الإبداعى الراقى، وهناك تقاطع حاد بين الرواية وحياة ياسين نفسه، المولود عام 1929، واستيقظ لكى يجد الاستعمار الفرنسى يهيمن على كل شىء، ويمسخ الحياة الوطنية بكل ما يستطيع من تشويه وتشريد وتفتيت، فشارك ياسين فى التظاهر المتعدد ضد هذا الاستعمار، التظاهر الذى كان الجزائريون كلهم يمارسونه دوما، وخرج فى تظاهرات 1945 الشهيرة، وقُبض عليه، وقضى بضعة أشهر قليلة، ولكنها كانت شهورا قاسية، ولكنه كما يفعل الموهوبون دائما، تحولت الزنزانة إلى المعلّم الأول له، والملهم الأكثر تأثيرا، فكان الشعر سلاحا، وكانت الثورة طريقا له. وعندما خرج من السجن، وجد نفسه مطرودا من المعهد الذى كان يدرس فيه، وهذا كان بسبب السجن، فهو شخص خارج على القانون بحكم المحتل الفرنسى، ورغم ذلك فهو يعتز بالفترة التى قضاها فى السجن، إذ يكتب فى مذكراته: كانت من أجمل لحظات حياتى، ففيها اكتشفت شيئين، هما الأعز على قلبى: الشعر والثورة ، وهذان البعدان الشعر والثورة، كانا سلاحين ظل يعيش بهما فى كل لحظة تنفس فيها ياسين فى العالم كله، إذ بدأ بعد ذلك عملية الخروج الكبرى من الجزائر الأرض، ليدخل فى الجزائر المعنى والفكرة والهوية والوطن، راح يبحث عن وطنه فى الفكرة المعلقة دوما على مشانق الأعداء الداخليين والخارجيين، على مشانق الخونة والعملاء، وفى الوقت ذلك دبابات المحتل، فلا فرق، وكل كلمة خائنة تنقص من رصيد استقلال أى وطن، والكلمة الخائنة، لا تقل بأى درجة من الدرجات عن أى قرار يتخذه العدو لغزو بلد ما، لذلك سعى ياسين لكى تكون كلماته إحدى المعاول التى تسقط على رؤوس أعدائه. فرحل إلى باريس عام 1947، وقدّم محاضرة عن عبد القادر والاستقلال ، وكان ما زال ياسين صغير السن، ولم يبلغ العشرين من عمره، لكنه أحدث حضورا ملحوظا، فكتب فى عام 1948 قصيدته نجمة أو القصيدة أو السكين ، وظل يتردد بين الجزائروفرنسا، حتى كتب مسرحيته الجثة المطوقة وفى عام 1956 كتب روايته الخالدة نجمة ، وهى كما أجمع ناقدوه، تعبّر تعبيرا مباشرا عنه، فهى تحكى قصته إلى حد ما، وهناك مقاربات نقدية كثيرة حول هذه المسألة. وربما كان إصرار ياسين على إحياء المحكيات المحلية، نقطة خلاف كما أسلفنا مع كثير من الكتاب والنقاد، ولكن المصريين كانوا قد كتبوا بترحيب شديد فى تعريف الأدب الجزائرى المكتوب بالفرنسية، وكان أول من كتب بشكل حصرى عن هذا الأدب، الدكتور طه حسين عام 1953، عن رواية الربوة المنسية ، لمولود معمرى، ثم استفاض بعد ذلك الناقد الأدبى والفنى قبل أن يتحول إلى مفكر أنور عبد الملك فى سلسلة مقالات مهمة عن الأدب الجزائرى، وصدر فى عام 1958 كتاب أدباء من الجزائر لإبراهيم الكيالى عن سلسلة اقرأ ، وفيها فصل مهم عن كاتب ياسين، وكل هؤلاء اعتبروا كاتب ياسين أحد مبدعى الجزائر والعالم الكبار على السواء.