يحق للرئيس السيسى أن يصف نفسه بأى وصف يراه، فإذا كان وصف نفسه بالطبيب، وهذا إحساسه بنفسه، فليكن، وإذا كان يعتقد أن الله منحه القدرة على التشخيص والعلاج، وقال ذلك علنا، فليقل لنا الرئيس الذى نال ثقة الناس فى انتخابات لم يطرح خلالها برنامجا انتخابيا، أى تشخيص يراه اليوم بعد عام كامل فى الرئاسة، وعام سبقه فى مركز الفعل خلال المرحلة الانتقالية، وعام سبقه كوزير دفاع فى حكومة الإخوان، وعام ونصف العام كعضو فاعل فى المجلس العسكرى الحاكم، وأعوام كثيرة فى القوات المسلحة، متدرجا فى المواقع حتى صار مديرا للمخابرات الحربية خلال حكم مبارك. كل هذا الاحتكاك بأنظمة الحكم المتعاقبة، والاقتراب والمشاركة، لا تجعل عبد الفتاح السيسى كأى رئيس بلا خبرة، جاء ليتفحص موضع قدميه أولا قبل أن يحاول أن ينفذ رؤيته أو أجندته، أو حتى أجندة جماعته وحزبه، هو قادم من قلب دولاب الدولة، ومن جوار أزماتها، ومن داخل مشكلاتها، لكن رغم كل ذلك لم يقدم برنامجا رئاسيا وهو مرشح، واستمر لا يطرح رؤية مكتملة وإنما أفكار هنا ومشروعات هناك، ووعود فى هذا الاتجاه، وكأنها جزر منعزلة يأمل أن يلتحم بعضها مع بعض يوما ما. رغم هذا المنطق يطرح نفسه باعتباره طبيبا يجيد التشخيص وتحديد العلاج، والحقيقة أن السياسيين الذين تفرض عليهم طبائع أدوارهم التعامل مع الواقع والممكن لتكييفه مع المفترض والمأمول هم أطباء بالفعل حين يتعاطون مع مشكلات مجتمعاتهم، كان «دى سلفا» ليس طبيبا فحسب وإنما جراح ماهر، وضع المريض «البرازيلى» على طريق التعافى والانطلاق، لكن دى سلفا سياسى بمعنى الاحتكاك بالناس والتفاعل معهم وعيش حالة المواءمات والمداولات والمكسب والخسارة والفشل والنجاح، اعتاد أن يحاسب غيره من الحكام، وأن يحاسبه غيره من المعارضين، والرئيس السيسى حتى بعكس سابقيه القادمين من المؤسسة العسكرية لم يمارس السياسة كعبد الناصر والسادات، ولم يجر تجهيزه مسبقا للحكم كمبارك الذى قضى 6 سنوات نائبا للرئيس، وإنما خلع الزى العسكرى ولبس حُلة المرشح الرئاسى، وفورا كان رئيسا. قد لا يعيبه ذلك نظريا، المسائل ليست شرطية، لكن حين تضع ذلك مع عدم توافر برنامج، وعدم طرح رؤى متكاملة أو تصورات تتعاطى مع مشكلات المجتمع بجد، ومع تجنيب الرئيس للسياسيين، وعدم إفصاحه عن فريق رئاسى واضح بوجوه مدنية لديها صلاحيات واضحة، يكون فى الأمر تغييب كامل للسياسة كفعل وفكر وإطار للترتيب والتنظيم والتعاطى مع مشكلات المجتمع. البرنامج عند السياسى هو جمع بين التشخيص وروشتة العلاج عند الطبيب، لكن الرئيس السيسى يطرح نفسه فى صورة الطبيب دون أن يقدم التشخيص، حتى بعد عام فى الحكم، يتحدث الإعلام عن إنجازات تبدو مثل تعليق لوحات على حائط مشروخ، يحدثونك عما يجرى تعليقه، ولا يحدثونك عن تصورهم للتعامل مع الحائط ككل، مواجهة شروخه، وتطوير دهاناته وبنيته الأساسية والتعامل مع مسببات هذا التردى التى جعلت الحائط كله فى حاجة إلى ترميم. أىّ تشخيص أمين للحالة فى مصر، مع الأخذ فى الاعتبار تجارب الحكم السابقة، لن يخرج عن مرضين أساسيين: «الاستبداد والفساد»، فهل هذا هو ذات التشخيص الذى فى ذهن وعقل الطبيب السيسى؟ عندما تتابع كلماته وخطاباته تجد فيها إدانة واضحة لحكم الفرد فى وصفه لعهد مبارك، وحكم الفرد هو بداية صناعة الاستبداد، فماذا فعل لتجنب هذا المرض وما خطته للعلاج منه، إذا كان عام كامل مر يبدو فيه كرئيس محور كل شىء واللاعب الأوحد، بلا برلمان ولا رقابة، ووسط حشد إعلامى مؤيد، ودعم من مؤسسات الدولة لتجفيف المجال العام، وحالة حقوقية لا تسر عدوا ولا حبيبا؟ يتحدث الطبيب السيسى كثيرا عن الفساد ومواجهته بنيات كبيرة، هو أيضا يضع يديه على هذا المرض، لكنه يتحرك فى علاجه بالمسكنات، لأن هناك من يعتقد حوله أنه يمكن مكافحة الفساد مع ترسيخ شكل من الاستبداد حتى لو زعم أنه مؤقت، والحقيقة أنه لا يمكن مكافحة الفساد دون برلمان حقيقى، والبرلمان الحقيقى لن يأتى سوى بعملية سياسية تنافسية حقيقية وليست شكلية، ودستور يحكم بالفعل ولا يوضع فى الأدراج، وقضاء مستقل دون شبهات، وأجهزة رقابة ومحاسبة وشفافية وتداول للمعلومات وحرية إعلام. دون هذه «الروشتة» المكتملة، لا يمكن مكافحة خطر الفساد، ودون الخروج من أفكار حكم الفرد، لا يمكن مواجهة توحش الاستبداد، ودون تشخيص سياسى أمين وبرنامج علاجى يتصدى لهذين الخطرين، لن يتعافى المريض وسيبقى أسيرَ أوجاعه.