هل أصبحت «داعش» بعيدة عنّا؟ هل يكفى هذا الستار من البطولات الوهمية التى تؤكد انتصارنا عليها؟ وهل اعتقدنا أن الضربة الجوية التى قمنا بها ضدها كافية لاتقاء خطرها؟ رغم كل ما يقال فإن «داعش» تقوى وتتمدد، تتحول من مجرد منظمة إرهابية إلى دولة راسخة على الأرض، وتساعدها التناقضات العربية والعالمية لتصبح أكثر رسوخا وصلادة، وهى تحتلّ أرضًا فى العراق والشام أكثر من مساحة بريطانيا، تمتلك من سوريا نحو نصفها، وأصبح لها موطئ قدم راسخة فى شمال إفريقيا، يؤازرها المتمردون فى صحراء سيناء، وأنصار «بوكو حرام» فى نيجيريا، وتتدفق عليها عوائد مالية من بيع النفط الخام من آبار العراق أو ليبيا، وأسعارها رخيصة تصل إلى ثلث سعر السوق، ويتولى ذلك مهربون فى غاية الكفاءة يستطيعون الهرب من الأساطيل التى تراقب الشواطئ. استطاعت «داعش» أن تمد حدودها بين سورياوالعراق دون انقطاعات على الأرض، وأصبحت تضاريس بادية الشام مِلكًا خالصًا لها، لم تؤثر عليها الحرب الجوية، غير الجدية، التى شنّتها أمريكا، ولا جعجعات الجيوش النظامية، فقد واصلت التقدم بثبات إلى «تدمُر»، المدينة السورية الأثرية التى تضعها «اليونسكو» على قائمة التراث الإنسانى، واستولت عليها بسهولة من جنود النظام السورى الذين فرّوا أمامها كالجرذان، وسوف تملأ هذه المدينة خزائن «داعش» بالأموال بعد أن يتم تقطيع آثارها وتهريبها إلى الخارج، وفى العراق لا يبدو أن أفراد الجيش قد استفادوا كثيرا من الأسلحة الأمريكية التى تدفقت عليهم، ولا من تدريب الخبراء، فللمرة الثانية انسحبت هذه القوات وتركت مواقعها وسلاحها وهربت، وسقطت مدينة الرمادى فى يد «داعش» من جديد. فى أمريكا تحولت «داعش» إلى نوع من الدعاية الانتخابية، فالجدل يثور حول: مَن المسؤول عن صعود «داعش»، أوباما الذى يحكم، أم بوش الذى رحل؟ وفى ظل احتدام معركة الرئاسة الأمريكية يتم تبادل الاتهامات دون البحث عن وسيلة لعلاج المشكلة، لم يعد أحد يأبه لحلها، الجمهوريون من أنصار بوش يقولون إن سياسة أوباما لسحب القوات الأمريكية من العراق عام 2011 دون أخذ الترتيبات المناسبة هى التى أوجدت فراغا أمنيًّا سرعان ما احتلته قوات «داعش»، وساعد على ذلك سياسة القمع والاضطهاد التى مارسها نظام زيبارى ضد سُنّة العراق، وبدت قوات «داعش» وقتها بمثابة الخلاص لهم من التعصب الشيعى. وقد اختارت «داعش» هدفها بدقة بالغة حين بدأت باجتياح مدينة الموصل حيث كانت فى معسكرات القوات الحكومية كميات ضخمة من الأسلحة، وكانت فى بنك المدينة مبالغ طائلة من العملات الأجنبية، واستولت «داعش» عليها جميعا، تحولت فى يوم واحد من حفنة لصوص إلى جيش من المتمردين، مما يؤكد أنها لم تكن ضربة عشوائية بقدر ما كان تدبيرا مخابراتيا لم تكن أمريكا بعيدة عنه، ولكنّ الديمقراطيين من أنصار أوباما يؤكدون أن تكوين «داعش» يعود إلى عهد بوش، فبعد أن سقط نظام صدام حسين فى 19 يوما، كان أول قرار قام به الحاكم العسكرى الأمريكى هو حل الجيش العراقى، وهكذا وجد نحو 300 جندى وضابط أنفسهم ضائعين بلا عمل ولا دخل، كانوا أفرادا منظَّمين مدرَّبين على القتال، ونسبة كبيرة منهم كانت تملك أسلحتها وتعرف أسرار المواقع العسكرية، من هؤلاء الجنود الغاضبين الساخطين تكوّنت المجموعات المحاربة فى «داعش»، ولكنها لم تبدأ فى الصعود والانتشار إلا بعد رحيل الأمريكيين، ولم تقتل وتدمر إلا غير الأمريكيين، كأنهم غضب مسلط علينا حتى يزيد من ضعفنا واضطرابنا، وبالتدريج أصبحت «داعش» هى الكابوس المضاد للربيع العربى. حتى الآن لا يريد أحد أن يحارب «داعش» بالجدية المطلوبة، لأن كلهم بشكل أو بآخر يستفيدون من وجودها، أمريكا لا تريد أن تقضى عليها لأنها تحقق أهدافها فى سوريا، وتستأنف معارك الحرب الباردة بينها وبين روسيا، فهى تنتصر فى كل يوم على السلاح الروسى الذى تستخدمه القوات الحكومية، وهى تعاقب بشار الأسد الذى لم يكن أبدا حليفا لها. إسرائيل بالطبع لها المصلحة الكبرى فى وجود «داعش»، فالفوضى والدمار والاستنزاف الذى تُحدثه فى عالمنا العربى يجعل إسرائيل بالمقارنة بهم أشبه بالملائكة، وإذا كانت هى دومًا دولة خارجة عن القانون الدولى فإن «داعش» خارجة عن كل الأعراف الإنسانية، وهى ترفع راية إعادة الخلافة الإسلامية، وتعطى بذلك مبررا قويا لإسرائيل لتسعى أن تكون دولة يهودية، وقد دمرت «داعش» دولا مثل سورياوالعراق لم تكن إسرائيل تحلم بتدميرها، كما أنها تُنهك الجيش المصرى فى سيناء كما تحب إسرائيل وترغب، السعودية زعيمة العالم السُّنى لها أيضا مصلحة فى وجود «داعش»، فهم يقيمون حاجزا بينها وبين إيران الشيعية، وهم يُكملون المهمة التى تقوم بها فى اليمن من أجل تدمير الحوثيين الشيعة، رغم ذلك فقد انقلب السحر على الساحر وتعرّض أحد مساجد الشيعة فى القطيف لعملية انتحارية أودت بحياة كثيرين. حتى مصر أيضا فى حاجة إلى «داعش»، فى حاجة إلى استقطاب العالم لسياستها فى حربها ضد الإرهاب، وتبرير الإجراءات الاستثنائية واعتقال العشرات، لذلك سوف تبقى «داعش» طويلا، إنه مصل الدمار الذى يحتاج إليه عالم عربى عاجز عن تحقيق العدل وعن الدخول إلى عصر جديد.