فى 30 يناير عام 1929 بدأ الشيخ عبد المتعال الصعيدى الأزهرى المستنير، سلسلة مقالات مهمة عن العلّامة عبد الرحمن بن خلدون، وجاء عنوان المقال الأول «الحكم فى الإسلام»، ولم يكن بن خلدون شاغلًا عارضًا أو استثنائيًّا لأحد الشيوخ الأفاضل، ولكنه كان مجالا للباحثين والكتّاب منذ أوائل القرن العشرين، وكانت دراسة الدكتور طه حسين، والتى نال عنها درجة علمية عن فلسفة بن خلدون عام 1914، حافزًا لكثيرين للخوض فى الاشتباك مع أفكاره، وعرضها والاتفاق أو الاختلاف معها، والتعرض كذلك لحياة هذا المفكر الشائكة، ولا ننسى فى هذا السياق الدراسة التى كتبها المؤرخ محمد عبد الله عنان «ابن خلدون.. حياته وتراثه الفكرى»، والتى صدرت طبعتها الأولى عام 1933، وربما تكون قد صدرت طبعة ثانية لهذا الكتاب بعد ذلك بعدة عقود، ولكنى لم أعثر على أى طبعة لكتاب ضم مقالات الشيخ عبد المتعال الصعيدى، رغم أهمية هذه المقالات، وربما ما نُشر للشيخ الصعيدى فى كتب، لم يستوعب كل إنتاجه الفكرى طوال حياته البحثية، وهذا كفيل بتحفيز الناشرين لاستعادة هذا الشيخ الجليل، الذى قاد ما يشبه الثورة العقلية فى مواجهة الجمود العقائدى الذى انتاب الحركة الإسلامية فى القرن العشرين، خصوصًا عند كثير من الأزهريين. جاءت مقالات الصعيدى -المدرس فى الجامع الأحمدى آنذاك- عن بن خلدون كاشفة لجوانب لم يتطرق إليها أحد من الذين بحثوا فى فكره وحياته، خصوصا أن الصعيدى كان يستخدم أفكارًا ولغة عصريتين، حيث يكتب فى نهاية مقاله الأول -بعد دراسة عميقة- قائلا: ونحن مع مؤرخنا الجليل فى أن حاكم المسلمين لا يجب أن يكون من قريش، ولكن مذهبنا أن إرادة الشعب هى التى يرجع إليها فى ذلك لتختار ما يلائمها من نظام الحكم الملكى أو الجمهورى ومذهبه أن ذلك يدور مع العصبيات الغالبة، وذلك بعينه هو الملك الاستبدادى الذى لا تتلائم طبيعته مع طبيعة الإسلام . ويسترسل الصعيدى فى كشف أفكار العلّامة التى لم تكن مطروقة من قبل ذلك وبهذا الشكل العصرى، والمختلف عن استخدامات الأزهريين، عدا الشيوخ محمد عبده وعلى عبد الرازق والدكتور طه حسين، الذين أخرجهم الأزهر من جنّته، ورمى بعضهم بالمروق والخروج على النواميس الأزهرية. والشيخ الصعيدى له كتابات كثيرة عن الأزهر، وأشهرها كتابه تاريخ الإصلاح فى الأزهر.. صفحات من الجهاد فى الإصلاح ، والذى صدرت طبعته الأولى عام 1943، وحسنًا فعلت الهيئة العامة لقصور الثقافة إعادة نشر هذا الكتاب مجددًا، مع كتابه الآخر المجددون فى الإسلام ، وستكتمل الفائدة عندما نرى مؤلفات عبد المتعال الصعيدى كاملة بين أيدينا، وبأسعار زهيدة، ولن تقدم مؤسسة من المؤسسات الخاصة مؤلفات هذا الرجل المستنير، لذلك يقع العبء على المؤسسات الرسمية، خصوصًا أن معرض الكتاب هذا العام يحتفى بأئمة التجديد فى الخطاب الإسلامى، وعلى رأسهم الشيخ عبد المتعال الصعيدى. وفى كتابه تاريخ الإصلاح فى الأزهر يتتبع الصعيدى جهاد المصلحين على مدى تاريخه، ومحاولات تخليص الدين الإسلامى من الممارسات الخاظئة، والأفكار المارقة، وتجنيبه ويل كل أشكال التطرف، واعتبار الأزهر مؤسسة إسلامية حاضنة لكل المسلمين، رغم أن البعض حاول استقطاب الأزهر فى معركة وهمية بين المذهبين الشيعى والسنى، وتأجيج النفوس ضد بعضها فى سبيل مكاسب سياسية بعيدة عن الإسلام تمامًا. وفى الكتاب اشتباكات مع بعض الذين أرادوا جرّ الأزهر إلى الوقوف فى جبهة الرجعية، فعندما كتب أحد الرجعيين -كما يكتب الصعيدى- ينتقد الشيخ المراغى لأنه يريد إصلاح الأزهر فى غيبة مجلسى الشيوخ والنواب، راح هذا الرجعى يضع دسيسة بين الشيخ المراغى وإصلاحاته، وبين الأحزاب السياسية، التى جنّبها المراغى التدخل فى حال الأزهر. ورغم أن الصعيدى ينتصر للمراغى فى هذا الموقف، والذى كان يريد فيه إخراج الأزهر من العصور القديمة، فإنه انتقده لأنه قال بعض ما أساء إلى الشيخ محمد عبده، فكتب الصعيدى ردًّا مهذبًا، ينتصر فيه للشيخ الإمام محمد عبده، وفى نهاية كتابه يقول: وكان الواجب أن يكون لنا الآن أزهر حديث كمصر الحديثة، لتنسجم مصر المدنية مع مصر الدينية، ولا تعوق إحداهما الأخرى فى طريق النهوض، نعم كان من الواجب أن يكون لنا أزهر حديث له قدرة على حل المشكلات الدينية الحديثة، فلا يتركها حجر عثرة فى سبيل نهوض مصر، بل فى سبيل نهوض العالم الإسلامى كله، كما يتركها الأزهر الآن من غير حل، لأنه لم يصل إلى الإصلاح الذى يعطيه القدرة على حلها . والشيخ يطرح كلماته فى هدوء، ودون صراخ، ودون هتاف، وهكذا يرسل أفكاره الغزيرة والقديرة على تكوين رؤية إسلامية واضحة ومستنيرة، لذلك كان الشيخ الصعيدى أحد الذين اختلفوا مع طه حسين دون ادعّاء بطولات وهمية للانتصار على طه حسين، ودون أدنى تحريض عليه، واتهامه بالكفر كما فعل -مثلًا- مصطفى صادق الرافعى فى كتابه تحت راية القرآن ، ووضع طه حسين على مشرحة ظالمة، ليتم اغتياله فكريا وأدبيا، ومثلما فعل آخرون غيره. ورغم أن الصعيدى يكتب مشيدا بطه حسين بعد توليه وزارة المعارف، واعتبر الصعيدى أن هذا صفحة جديدة بيضاء فى تاريخ الأزهر الشريف، لأن الأستاذ طه حسين -كما يكتب- إنما اكتسب هذه القوة من جمعه بين الثقافة القديمة والحديثة، وإن جمعه بين الثقافتين جعله لا يشعر بنقص فى نفسه، كما يشعر غيره ممن يقتصر على الثقافة القديمة وحدها، فإن الصعيدى يؤلف كتابا كاملا عنوانه مع زعيم الأدب العربى فى القرن العشرين ، يتناول فيه بعض كتابات طه حسين ناقدا لها، ولكن بشكل هادئ وعقلانى. ولم يكن هذا الكتاب هو الوحيد فى الاختلاف مع طه حسين، ولكنه كتب كتيبا صغيرا تحت عنوان اجتهاد جديد فى آية (وعلى الذين يطيقونه فدية) ، مستعيدا ما كتبه الشيخ عبد الحميد بخيت مفسرًا هذه الآية، باعتبارها تبيح الإفطار فى شهر رمضان، وعندما ثار الأزهر وعلماء المسلمين على الشيخ بخيت، كتب الدكتور طه حسين مقالين تحت عنوان حق الخطأ ، ودافع فيهما عن الشيخ بخيت، ولكن الشيخ الصعيدى اختلف مع طه حسين، ولكن كما أسلفنا، فهو اختلاف العارف بقدر مَن يختلف معه. الشيخ عبد المتعال الصعيدى جوهرة بحثية وفكرية وإسلامية كبرى، وعلينا أن نستعيدها كاملة دون نقصان، خصوصًا فى هذه الأيام التى تحتدم الأفكار، وترتطم العقول المستنيرة بالعقول الغاشمة.