بدأ خالد محمد خالد حياته العلمية كبيرا ومدوّيا وصاحب رأى ومثيرا، ففى فبراير عام 1950 نُشر أول كتاب له، وكان عنوانه «من هنا نبدأ»، وكانت مصر فى ذلك الوقت تعيش مخاضا كبيرا، وصراعا كبيرا بين قوى عديدة، وكان القصر الملكى الفاسد يحكم الحياة السياسية بالحديد والنار، وكان القصر يحكم بأيدى آخرين، وفضلا عن البوليس السياسى الذى كان ينطلق ويُعربد فى كل مكان، كان هناك «الحرس الحديدى» الذى كان يتخلَّص من أى معارض شرس، وكان معظم الاغتيالات التى تمت من تدبير هذا الحرس، فكان عزيز فهمى المحامى الشهير، وعبد القادر طه الضابط الذى كتب عنه يوسف إدريس قصة «5 ساعات»، وكذلك الباحث والمثقف جاك تاجر وهو صاحب كتاب «أقباط ومسلمون»، وكان الملك فاروق يشك فى أن جاك تاجر على علاقة بزوجته، وكان جاك فى ذلك الوقت مديرا للمكتبة الملكية، وتخلَّص منه بواسطة ذلك الحرس، وكذلك كان الإنجليز يعربدون ويحكمون ويفسدون دون أدنى رادع، أما الشعب الكادح فكان يقاوم بطرق عديدة، وكانت الأحزاب والقوى الوطنية تعمل كل ما فى جهدها من أجل التخلص من كل ذلك، وفى تلك الآونة ظهر كتاب الشيخ خالد، وبعد صدوره ببضعة أسابيع، وبالتحديد فى 7 مايو، صدر أمر من النيابة بمصادرته، وبعد 20 يوما بالضبط فى المحكمة، أى فى 27 مايو، صدر قرار بإلغاء أمر الضبط، ويعدّ هذا الحكم حكما تاريخيا يضاف إلى كل وثائق الحرية فى تاريخ مصر، وصدر هذا الحكم من محكمة القاهرة الابتدائية برئاسة المستشار حافظ سابق، ومنذ ذلك الحين، صار الشيخ خالد نجما فى سماء الصحافة والفكر والرأى، لكن لم يصمت المتشددون، حيث صدر كتاب يهاجمه من تأليف «من أين نبدأ؟» للشيخ عبد المتعال الصعيدى، وصدر بعده كتاب آخر يردّ على الكتابين بلهجة حادة ورادعة للشيخ محمد الغزالى، وكان عنوان الكتاب «من هنا نعلم». جدير بالذكر أن مؤسسة «أخبار اليوم» أخذت موقفا إيجابيا مع الكاتب، وكتب على صفحاتها أعلامٌ يدافعون عن الكتاب وكاتبه، وكانت عناوين الكتاب مفزعة لكل الرجعيين فى ذلك الوقت، وفى أى وقت لاحق، والكتاب ينقسم إلى 4 عناوين هى: «الدين.. لا الكهانة، والخبز هو السلام، وقومية الحكم، والرئة المعطلة»، وفى هذه الفصول يناقش الكتاب علاقة الدين بالدولة، ويُعيد أفكار الشيخ على عبد الرازق بروح جديدة، لذلك فزعت كل الجلاميد وكهنة الدين إزاء هذا الكتاب، وبعد انتصار معركة الكتاب صار لخالد محمد خالد صوت مسموع، فراح يكتب فى مجلة «روزاليوسف» مقالات تقاوم كل أشكال الرجعية، ولم تمر 4 أعوام حتى صدرت الطبعة الثامنة للكتاب فى نوفمبر 1954، وكان الكتاب محل اهتمام جمال عبد الناصر الذى صرّح فى ما بعد بأنه كان يشترى نسخا من الكتاب ويُوزِّعها على زملائه من الضباط، وبعدها طلب مقابلة خالد محمد خالد، وحدث ذلك أكثر من مرة، وهناك مناقشات منشورة للحوارات التى تمت، وينوّه عنها الشيخ خالد فى سيرته الذاتية، ثم صدرت بعد ذلك سلسلة كتب هى: «مواطنون لا رعايا»، و«الديمقراطية أبدا»، و«الدين للشعب»، و«هذا.. أو الطوفان»، و«لكى لا تحرثوا فى البحر»، وكلها كتب موجَّهة إلى الحكم والحكام فى ذلك الوقت كما يبدو من عناوينها، إلى أن صدر كتاب «لله والحرية» فى 3 أجزاء، وهنا كانت وقفة للكاتب والمفكر سلامة موسى الذى بدأ اشتراكيا «فابيا»، ومنجذبا إلى أفكار برنارد شو، لكن كان الرجعيون يصرون على أنه كان مسيحيا فى فكره أكثر من أن يكون مفكرا حرّا، اقرؤوا ما كتبه سلامة موسى عن الشيخ خالد محمد خالد فى جريدة «الأخبار» بتاريخ 19 مايو 1957: «خالد محمد خالد كاتب ومفكر ومصلح، وكتابه الأخير (لله والحرية) هو صرخات الضمير الموجع والقلب الكبير والعقل المستنير، وهو يكتب بصوت عالٍ فى أسلوب ثائر، فلا تتمالك وأنت تقرؤه إلا أن تحسّ إحساسه وتغضب غضبه.. وبيئته الأولى أزهرية وتربيته دينية، ولذلك لا يكاد يكتب شيئا إلا وله قصد الإصلاح والنظر إلى الحياة من زاوية الدين، ولم أسمع قط كلاما عن محمد صلى الله عليه وسلم أو المسيح أحلى مما سمعت من خالد، فإنه يتحدَّث عنهما كما لو كانا أديبين أو فيلسوفين عظيمين، وهو مثابر على الدرس يتخيَّر الكتب النافعة بعناية كبيرة، وقد مرض فى العام الماضى لانهماكه فى الدرس، ثم هو لعمق ثقافته ووفرة معارفه شجاع لا يبالى أن يصطدم، اسمع ما يقول فى كتابه الأخير: (أشرت إلى مسؤولية الأزهر عن فوضى الأخلاق فى بلادنا، وسقت إحصاءً رسميا تبيَّن فيه أن حوادث الطلاق بين رجال الدين والوعاظ والفقهاء وخدمة المساجد والمأذونين كانت بنسبة 45٪، بينما هى فى طائفة أخرى كالأدباء والخبراء بنسبة 25٪)»، ويسترسل سلامة موسى فى تفنيده ومناقشة الكتاب بعقل مستنير، يؤكد أن هناك وئاما حقيقيا ومواطنة فعلية، ولا يُعكِّر صفو ذلك الوئام أو تلك المواطنة، شذوذ فكرى، أو رجعية مقيتة.