مخيم اليرموك فى سوريا صار هو مكان اللاجئين الفلسطينيين، ولكنه أيضًا فى نفس الوقت يحاصر من إسرائيل ومن سوريا، قرر أهل المخيم أن يقفوا على الحياد فى هذا الصراع، مكتفين بما يعايشونه من آلام، فلا هم مع الثورة ولا هم مع بشار، هم فقط يريدون الحياة والنجاة من أقصى ما يمكن أن يتعرض له الإنسان، إنه الجوع. ما نراه الآن هو أن كل شىء يغدو ضبابيا فى تلك اللحظات المجنونة، التى تجد فيها البعض يدفع ثمن جريمة لم يرتكبها، الفيلم لا يقدم فقط معاناة أهل اليرموك الذين صار غذاؤهم عبارة عن شربة عليها توابل ولا أكثر، وهم احتلوا فى لحظة مقدمة الكادر فى التغطية الصحفية والفضائية، سبق أن قرأت أنهم قبل أشهر كانت لديهم أشجار تحوم فوقها العصافير ويكتفى أهل المخيم بمداعبتها، ومع انحصار المؤن الغذائية توجهوا لالتهام العصافير، وبعد أن أجهزوا عليها لم تعد تأتى حتى العصافير إلى أشجار المخيم، المعاناة التى يرصدها الفيلم تشمل كل الفلسطينيين مع اختلاف الدرجة. الشخصية التى قدمها المخرج رشيد مشهراوى وهو واحد من أهم علامات السينما الفلسطينية فى الثلاثين عاما الأخيرة، لا يزال رشيد يمزج فى رؤياه بين الروائى والتسجيلى، ولا تزال فى كل أفلامه فلسطين هى البطل، سواء كانت الإطلالة تسجيلية أم درامية، يشارك فيلمه رسائل من اليرموك فى المسابقة الرسمية لمهرجان دبى ، وتتنافس على جائزة المهر أفلام روائية وأخرى تسجيلية. المخرج يقدم لمحة عصرية، فالتواصل عن طريق الإسكايب وإرسال الصور من المخيم التى ترصد حالة البشر، والهدف هو أن تصل الرسالة للعالم، ويقدم رشيد معرضًا فى رام الله لأهالى اليرموك التى تضم الفلسطينيين تحت غطاء السلطة الفلسطينية، وهم يعيشون فى حال مغايرة لفلسطينيىغزة أو الغربة، بينما الفلسطينى ابن المخيم فهو المنسحق تمامًا ويطرح رشيد سؤالا: هل هذا يكفى؟ النظال أيضا من خلال الموسيقى، هذا العازف على البيانو ومعه عازف آخر على الكمان، ونعايش الأطفال وهم يرددون الأغانى، ونتابع مشهراوى وهو يجرى حوارًا معهم يسأل الأطفال عن فلسطين، نعم لا يزالون متعلقين بالجذور، هذا من حيفا وأخرى من عكا وهكذا. إننا بصدد الجيل الثالث أو الرابع بعد النكبة والهوية الفلسطينية لم تمح حتى من ذاكرة هؤلاء الذين توارثوا حب الأرض مثل الجينات، فلا يمكن أن تنزعها عن أحد، لأنها من المكونات الطبيعية للبشر. الحالة الصحية والصحيحة هى تلك التى تحدث قدرًا من التواصل مع الآخرين والميديا تحقق ذلك. كان الشاعر الراحل محمود درويش الذى أقاموا له متحفًا فى رام الله يحارب بالكلمة، والمتحف احتفظ بتسجيلات صوتية ومرئية له، إنها الميديا التى أبقت على هذا التراث الإنسانى، ولكن رشيد يكرر السؤال: ماذا بعد؟ نعم بالطبع تعاطفك وحده مش كفاية، هذه حقيقة ولكن لا يمكن التقليل من قوة الرصد الفنى والثقافى وإلا فما جدوى هذا الفيلم وغيره؟! كان رشيد حريصًا على تلك العلاقة الثنائية التى جمعت بين مصور الفوتوغرافيا نيراز سعيد، الذى يعيش فى المخيم وخطيبته التى نزحت إلى ألمانيا لميس الخطيب، إنها أيضا تؤكد الوجه الآخر للحياة وما يجرى فيها، نوع من النضال نراه فى حالة حب ونراه أيضًا فى قطعة موسيقية، رغم أن مأساة الجوع تحاصر الجميع وفقر المياه، والكهرباء تنقطع، والنت كثيرًا ما يختفى، ولكن اليرموك لا يزال صامدًا، والنضال بالصورة والأغنية والموسيقى لا يمكن أن يتوقف، كان يبرق أيضًا شعاع الأمل رغم كل تلك الظلمة فى مخيم اليرموك.