إذا صمتُّ ونفَّذت تعليمات الرئيس القطان وتابِعه المنيسى، فسيموت عشرات الآلاف إن لم يكن الملايين، وإن لم أنفِّذ التعليمات -قل إنى رفضت واستقلت أو سافرت أو هربت- فسيذهب المنيسى وحده أو مع شخص آخر ويتمّ تنفيذ العملية ويموت نفس العدد من الناس. إذن كيف أكون مسؤولا إن شاركت إن كانت هذه المشاركة مثل عدمها؟ لو كنت قد عارضت عملية البارجة بشدة، وظللت أصرخ فى الاجتماع أن لا تفعلوها، فهل كان ذلك سيوقفهم؟ هل كنت سأجد صفية وأولادها جالسين فى حديقة بيتهم اليوم يعدون العشاء وينتظرون عودتى؟ ستقول نور إن عدم مشاركتى لن يمنع الفعل نفسه، لكنها ستحمينى أنا من ذنب المشاركة. أى أن كل ما تحققه استقالتى هو إعفائى من رؤية الجريمة، كأنى أغمض عينى. وما الفائدة من إغماض العين إن كان انسحابى لن يفيد أيا من الضحايا؟ كل ما سيفعله أنه يسمح لى بادِّعاء البراءة، براءة كاذبة لأنى أعلم بالجرم قبل وقوعه، فما الفائدة؟ جاءتنى أولى الإجابات وأنا فى الطريق من المكتب إلى البيت، وأنا أفكِّر فى قنابلى النووية الصغيرة التى سأذهب لأحملها بين يدَىّ حتى هنا وأقتل بها أعدادا لا أعرفها، من بشر لا أعرفهم، لفترة لا أعرفها. مرحى أيها الرئيس. المعارضة والاستقالة ليسا حلا، لا يا نور، ليس هذا هو الحل. لم يكن ليفيدنى فى شىء لو أنى استقلت ليلة البارجة، ثم قُتلت أختى فى الفجر. لم يكن ذلك ليخفف من وقع المصيبة علىّ. المطلوب شىء آخر، المطلوب منع الجريمة نفسها، لا مجرد البعد عنها. معرفتى بالأمر جعلتنى شاهدا ومشاركا، ولا فرق بين الفئتين. لم أطلب هذه المعرفة بل فرضها على القطان فرضا. وثق بى، لغبائه أو اعتقاده في ضعفى وسذاجتى وخوفى أو لصلة القربى التى لم تنفصم بيننا، كونه جد ابنى الوحيد، أو لأنه لا يثق بأحد آخر أكثر. أيا كانت أسبابه، فقد ورطنى فى الأمر، ولم يعد يمكننى ادعاء الجهل أو البراءة. الشاهد على التخطيط للقتل مشارك، سواء مد يده بالنصل فى عنق الضحية أو نظر فى الناحية الأخرى وقت النحر. حين أخبرنى القطان بالأمر، جعلنى شريكا، ولا رجوع عن هذه الصفة. لا شىء يمكن أن يجعلنى محايدا أو حتى ضحية بريئة. العلم بالجريمة كشَف غطاء البراءة، وصار علىّ الاختيار بين المشاركة والمقاومة، لم يعد أمامى اختيار ثالث. فهل أشارك، أم أقاوم؟ لن أستطيع المشاركة. لن أستطيع المساهمة فى قتل كل هؤلاء الناس، أيا كانت الدواعى والمبررات. ربما كان يمكن إقناعى بضرورة العملية فى الماضى، وأنا شابّ، قبل عزالدين فكرى وقتل الناس بالآلاف من أجل تطبيق المشروع الثورى تطبيقا مثاليا. ربما كان يمكن إقناعى بضرورة التضحية بالأبرياء قبل أن أرى المشروعات كلها تتهاوى ولا يبقى بين يدَىّ سوى الدم. ربما كان يمكن إقناعى بضرورة العملية قبل أن أرى كيف تُتَّخذ القرارات، وبأى خفة، ودون أن تحقق أهدافها أبدا. ربما كان يمكن إقناعى بضرورة العملية لو لم أكن أعلم بالظروف التى تم فيها الاحتلال، والخيانة، وبيع الضمير من أجل السيطرة. ربما كان يمكن إقناعى بضرورة العملية لو لم أكن أعلم أن هدفها الرئيسى هو منع الأغلبية المدنية من دفع العسكريين خارج السلطة التى أدمنوها. لا شىء يستحق قتل الآلاف والآلاف من البشر فى سبيله، لا شىء. لن أستطيع أن أشارك فى خنق هذه الأرواح كلها، لا ضميرى يحتمل هذا ولا ما بقى فىّ من إنسانية. لكن لِمَ لا أنجو بنفسى ومن أحب وأسكت؟ هل عيَّننى أحد مسؤولا عن العالَم؟ هل انتخبنى الناس وأمَّنونى على حياتهم؟ أليس لهم رب يحميهم ويعاقب من يحاول إيذاءهم؟ فما شأنى أنا؟ أنا مسؤول عن عائلتى، عنك أنت وعن امرأتى وزوجة أخى المرتاعة وأبنائها، وربما عن عبده الذى يعيش فى كَنَفى. هذه هى حدود مسؤوليتى، ويجب أن تكون هذه أولويتى، فلِمَ لا أحميهم وأنقذهم وأفر بهم جميعا من هذا المركب الذى يسير إلى الدمار؟ لم لا آخذ بنصيحة حامد، اللواء، المتمرس، مدير المخابرات العامة، الذى يعرف كل شىء، ويعرف النظام ودواخله ومخارجه وشخصيات القائمين عليه واحدا واحدا؟ ألم يقُل لى بوضوح شديد إنهم خونة، باعوا الوطن والمصلحة العامة من أجل مصلحتهم هم، وترك منصبه، والبلاد كلها، وذهب حتى فنزويلا ليبعد عنهم أقصى ما استطاع؟ لِمَ لا أفعل مثله وأرحل إلى فنزويلا؟ ويستطيع القطان ساعتها شراء ما يريد له جنونُه من قنابل نووية، صغيرة أو كبيرة، ويفجرها حيثما شاء. له رب يعاقبه، ولهؤلاء الناس مؤسسات وأجهزة ودول تحميهم، فلِمَ أتطوع أنا؟ وإذا كان قادة هذه المؤسسات والأجهزة والدول مجانين، أو خونة ومأجورين، أو حتى أغبياء حسنى النية، فما الذى يحشرنى أنا وسطهم؟ ولِمَ أتحمَّل عواقب أفعالهم؟ لِمَ لا أفرُّ أنا، ومن أحب، وأترك الناس تفعل ما يحلو لها بعيدا عنى؟ ثم ما النتيجة الحقيقية لو تَدخَّلت وحاولت منع هذه العملية؟ لنقُل إنى منعت القطان والمنيسى من إتمام هذه الصفقة تحديدا، وضحَّيت بحياتى ثمنا لهذا، هل هناك ما يمنعهما من معاودة الكَرَّة بعد «استشهادى»؟ وحتى إذا نجحت فى إقصائهما هما الاثنين من الحكم، وتمت محاكمتهما وحبسهما بالمركز الطبى الدولى أو مستشفى المعادى العسكرى أو حتى ظلوا بمستشفى سجن طرة، هل سيمنع ذلك من يأتى بعدهما من تكرار نفس الجريمة، بنفس الشكل أو بشكل مغاير؟ أو أسوأ من هذا وذاك؟ هل هناك من يمنع مجنونا يشبههما على الجانب الإسرائيلى أن يفعل شيئا مماثلا، وأكون بذلك قد ساهمت من حيث لا أدرى فى تقديم أهلى وناسى لُقمة سائغة لعدوّ لا يقل جنونا عن القطان؟ ألم تؤدِّ كل المشروعات السياسية التى رأيتها إلى كوارث أكبر من الظلم الذى كانت تحاول إصلاحه؟ هل نجحت ثورة واحدة فى التاريخ فى تحقيق العدل؟ حتى الرسول اختلف صحابته من بعده وقتل بعضهم بعضا. ألم تؤدِّ ثورة 2011 إلى قتلَى وإلى ضياع حياة الملايين فى فوضى وصراعات لا لزوم لها دون أن تأتى بالحرية والكرامة والعدالة التى كانت تنشدها؟ ألم يؤدِّ مشروع عزالدين فكرى، المنظَّم، المهندَس بحرص، إلى قتل عشرات الآلاف غير الثكالى واليتامى والجرحى؟ فيمَ المحاولة مرة أخرى إذن؟ وما الفائدة، إن كانت كل محاولة لتحقيق حرية أكبر وكرامة أشد وعدالة أكبر تنتهى إلى عكسها؟ أليست الحياة معقَّدة بدرجة أكبر من أن تصلحها مشروعات السياسة وأفكارها؟ ألم أفهم بعد أن لا فائدة من كل هذا؟ أن السياسة عبَث بالأقدار لا يمكن إلا أن يؤذى؟ لم لا أترك العالم لمصيره إذن؟ لم لا أترك التاريخ يأخذ مجراه مثلما تقول الكتب؟ ألم أتعلم هذا الدرس بعد كل ما رأيته؟ فلم إذن لا يزال بداخلى هذا الصوت الرفيع الذى يحثُّنى على المقاومة ومنع الأذى عن آلاف الأبرياء ولو اقتضى الأمر التضحية بنفسى؟ لِمَ؟ ثم، ألا يمكن أن يكون القطان على حق، وتكون الناس فعلا لا تحتمل تطبيق ما تنادى به؟ ينادون بالحرية والعدل والمساواة، فهل يحتملونها فعلا، تلك القيم؟ هل يقبلونها لغيرهم أم يريدونها لأنفسهم فقط؟ ثاروا من أجلها منذ تسع سنوات، فأين هى تلك الحرية التى منحوها لخصومهم؟ مَن منهم تَوخَّى العدل حين استطاع الظلم؟ مَن منهم عامل الآخرين بالمساواة التى كان يطلبها؟ لا أحد، لا الإخوان ولا السلفيون ولا اليساريون ولا الديمقراطيون. نادوا بالإصلاح وإعادة بناء الدولة، فمَن منهم تَحمَّل ثمنه حين حاول عزالدين تطبيق إصلاحاته؟ لا أحد، اصطفُّوا فى عُرض الطريق، فقاتَلَهم، ثم لفُّوا حبل المشنقة حول رقبته وتَخلَّصوا من تصميمه المزعج على تنفيذ ما ينادون به. أيكون اللواء القطان على حقّ؟ ويكون هو، ومن معه، من فهموا نفسية هذا الشعب أكثر منا جميعا؟ هم الآتون من قلب الشعب والذين يشاركونه ثقافته المتوارَثة جيلا بعد جيل منذ فلاّحى الدولة الفرعونية، ونحن الحالمون الذين نحاول تطبيق الحلم على الواقع قسرا، حتى حين يئنّ الواقع ألما من حلمنا وضيقه. ماذا فعل «الشعب الحر» صباح اليوم التالى لإعدام السفّاح؟ ركنوا «صف تانى»، وكسروا الإشارات، وتأخروا فى مواعيد العمل؛ «أخذوا راحتهم». فلِمَ نضايقهم نحن، ونحرجهم بالسعى لتنفيذ كلام يقولونه كى يسرُّوا به عن أنفسهم؟ لم لا يكون القطان على حق، ويكون هو الذى يتقى الشر الأكبر بهذا الشر الذى نسمِّيه الاستبداد؟ أيكون اللواء القطان سيدنا الخضر وأكون أنا موسى، الغر، المتعجل؟ ع.ش.فشير