لم تنفجر الفقاعة هذه المرة فى شكل ثورة، ولا احتجاجات، ولا عنف، ولا حتى مطالبات بتغيير الحكومة، بل جاءت فى شكل موجة هادئة، متدرجة، غمرت الأرض ببطء، ثم عَلَت وانقلبت، فغمرت الدرجة التى تعلوها، ثم الدرجة الأعلى، وهكذا، حتى باتت تهدِّد القطان نفسه ومَن معه بالغرق. أو هكذا ظن الجميع. ابتسمتُ حين أخبرَتنى نور بما يفعله الشباب. ذكرَت الأمر فى إشارة عابرة، دون تحمُّس أو سخرية. قالت إنها حضرت معهم بعض الجلسات و«لم تكن سيئة». سألتها كيف انتهى بها الأمر هناك فقالت إن صديقة لها من الفرقة مرت عليها وأخذتها. هذه أول مرة تحدثنى نور عن التقائها أحدا من الفرقة منذ إغلاق المسرح. وقد أسعدنى ذلك، فهى بلا عائلة فى القاهرة، ومن بقى من عائلتها بعد وفاة أبويها أقارب بعيدون فى طنطا انقطعت صلتهم بها منذ أيام الجامعة. أعضاء الفرقة وأصدقاؤها فى المسرح هم كل عائلتها، وأسعدنى أن تعاود الاتصال بهم وتخرج قليلا من قوقعتها. لكنى وجدت ما قالته مشجعا لسبب آخر أيضا، فأنا، مثل كل الناس، تعبت من الفوضى وأردت أن أرى أخيرا ثمارا للثورة التى بدأت منذ تسع سنوات. وحين علمت بما يفعله هذا الشباب فهمت فورا أن هذه الموجة ستنجح، أن هذه المرة هى المرة الصحيحة. وجزء آخر، خفى، كان سعادة شخصية بأن يأتى الخلاص على يد هؤلاء الشباب الذين درَّبهم وراهن عليهم صديقى وأخى، نصفى الآخر، قبل أن يتحول إلى قاتل منظَّم. وابتسمتُ أيضا، كصبىّ مشاكس، لأن القطان على ادعائه الذكاء وقع فى خطأ قديم قِدَم الفراعنة، وجاءته الضربة القاتلة على يد الطفل الوحيد الذى لم يُغرِقه. ما فعله الشباب كان بسيطا فى ظاهره، ويمكن لأى عارف بمصر أن يفكر فيه، لكن تنفيذه يتطلب سنوات من العمل. الخطوة الأولى اللافتة للنظر كانت تحوُّلهم من التنافس مع شباب الإخوان إلى التعاون معهم، وهى خطوة لم تكن تتطلب ذكاء فقط، بل تغييرات فى ميزان القوة كى تصبح ممكنة. فالشباب الديمقراطى لم يكن ليتعاون مع أقرانهم من الإخوان إلا بعد تثبيت قواعدهم المستقلة والاطمئنان للتأييد الذى يحظون به واكتسابهم الثقة الكافية التى تمكِّنهم من العمل مع خصومهم السياسيين. كذلك لم يكن من الممكن لشباب الإخوان التعامل معهم بندِّية إلا حين يكونون أندادا حقيقيين لهم. ثانى التغييرات هو تحوُّلهم عن السعى لإسقاط السلطة السياسية إلى التركيز على بلورة تفاهمات مع الجماعات والقوى الأخرى حول القضايا الرئيسية، بحيث يمكن لأى منهما الحكم إن وصلوا إلى مقاعده. فدخلوا فى مناقشات طويلة -بدت عقيمة للجميع، خصوصا ضباط الأمن القومى- حول كيفية التعامل مع التحديات الاقتصادية والاجتماعية، من مشكلة الفقر إلى تمويل التعليم والصحة، والاستثمار. وكيفية إعادة بناء أجهزة الدولة المختلفة، من وزارات التعليم والصحة إلى القضاء والإعلام، بالتفصيل وبشكل عملى. كما شملت تفاهمات حول شكل الدستور، ونظام الحكم، والعلاقات الخارجية، وهكذا. كانت هذه المناقشات فى حد ذاتها مهمة لخلق إحساس بين الجماعات المتفرقة بالجماعة، بأنهم يشكلون جزءا من كل، وكذلك لتركيز أنظار الناس، السياسيين منهم وغير السياسيين، إلى المشكلات الحقيقية والعملية التى تنتظر أى حكومة، ومن ثم كانت تلك المناقشات أشبه بعملية تعليم جماعى، ولم يستطع أحد وقفها، لأنها لم تكن مرتبطة بتحرُّك سياسى محدَّد، وحرص الشباب من الجانبين على إبقائها فى هذا الإطار التعليمى وعدم تعجُّل القفز إلى السياسة. لكن المناقشات والتفاهمات تحولت إلى تحرُّك سياسى فى ما بعد. شيئا فشيئا، تحولت شبكة الحوارات هذه إلى جذور حركة سياسية قوية، معظمها من الشباب، وبدأت تدفع الطبقات التى فوقها وتضطرها إلى العمل بطريقتها. ومع الوقت اضطُرَّت القيادات القديمة الممتعضة إلى الاستجابة لهذه الجذور الفتيَّة، لأنها فى نهاية الأمر لم تكن تستطيع إنجاز شىء دونها. هذه العملية بدأت منذ ما قبل الانقلاب العسكرى، وكانت عملية «الطاعة المدنية» أول تجلياتها. ومن خلالها ثبتت صحة وجهة نظر الشباب فى أن الشعب سئم الاحتجاجات والمظاهرات، بل سئم الثورة نفسها واسمها ورائحتها وكل ما يذكِّره بها. فهِم هؤلاء أخيرا أن الأغلبية الكاسحة من الشعب لا تريد العودة إلى الماضى، لكنها فى نفس الوقت لا تريد الثورة. كل ما تريده هو الالتفاف حول قيادة تقودهم للتغيير، لا تعيدهم إلى الماضى ولا تغرقهم فى مزيد من الثورة. وحين دعا ائتلاف الشباب من الناحيتين إلى حركة «الطاعة المدنية» كانت الاستجابة الشعبية كاملة: كأن الناس تصرخ بالسياسيين أنهم يريدون حياة طبيعية، حياة حرة وكريمة لكن طبيعية. ومن هنا تطورت حركة «معا»، ونقلت الحركة السياسية كلها إلى اتجاه آخر. حققت مبادرة الطاعة المدنية هدفها، وهو الحفاظ على الإدارة المدنية للدولة من التوقف ومن السقوط فى يد العسكريين. صحيح أن القطان استغلها لصالحه، لكن الشباب لم يمانع ما دام فى الأمر فائدة أكبر. وكان هذا فى حد ذاته جزءا من طريقة التفكير الجديدة التى تَبنَّوها. استمرت مبادرة الطاعة المدنية شبكةً للتعاون بينهم، ثم طوَّروها إلى شبكة للرقابة على أداء أجهزة الدولة والمحليات، وهى الشبكة القديمة التى أنشؤوها فى أثناء عملهم مع السفاح. ثم طوَّر الشباب الديمقراطى مراكز الخدمة الجماهيرية التى بدأها حين كان يسعى لإجهاض حكم الإخوان، والتى كانت تجمع طلبات غير القادرين على الحصول على الخدمات وتساعدهم، طوَّرها مع شباب الإخوان إلى مراكز خدمة متكاملة. وهكذا، صارت حركة «معا» أشبه بحكومة افتراضية، لديها فهْم دقيق بمشكلات الناس على اختلافها واختلافهم، ولديها معرفة واقعية بما تستطيع أجهزة الدولة القيام به، وما تستطيع الجمعيات الأهلية والمتطوعون القيام به، وحجم المطالب الشعبية غير المستجاب لها، وأنواعها، وتوزيعها. وصار شبابها على اتصال بالناس ومشكلاتهم فى أحيائهم ومدنهم وقراهم. هكذا صارت حركة «معا» جماعة سياسية جماهيرية بالمعنى الدقيق للكلمة: تعبِّر عن مطالب قطاعات من الشعب، تعرف مشكلاته وتعرف ما يمكنه التضحية به وما لا يمكنه احتماله، ويعرفها ويثق بها وبناسها الذى يختلط بهم فى حياته اليومية وعاشرهم واختبرهم. حينما تتحرك جماعة كهذه، فإنها لا تتحرك وحدها، بل تجرّ وتدفع قطاعات عريضة من الشعب معها، لذا يصعب الوقوف أمام حركتها. عندما بلغوا هذه النقطة، بدأ شباب «معا» يوسعون المناقشات والتفاهمات التى شرحتها لك على مستوى المحليات. وبحلول شهر مايو عقدوا العزم على التحرك بشكل أسرع لإنهاء حكم العسكر. ولكنهم قرروا فعل ذلك بشكل سلمى ودون اللجوء حتى إلى احتجاجات أو مظاهرات. بنوا اتفاقا عامًّا حول ضرورة تفادى المواجهات مع القطان والطغمة المحيطة به والعمل على إزاحتهم سلميا من خلال عملية انتقالية تستند إلى الوعود التى قدَّمها القطان نفسه وتبدو سلسة ومرنة لعموم الشعب، أى أنهم بدلا من المواجهة قرروا بناء نفق يدفعون الجميع فيه، بحيث تؤدِّى الحركة نفسها إلى دفع العسكر خارج النفق. ثم بدؤوا مناقشات حول ملامح وخطوات المرحلة الانتقالية التى تلى حكم العسكر، ومن هنا، ومع التقدم فى تحقيق توافق على العملية الانتقالية، أطلقوا مبادرة المؤتمرات التأسيسية. لم تكن المؤتمرات التأسيسية إلا امتدادا طبيعيا للمناقشات والحوارات التى دارت عبر الشهور التى سبقتها، لذا نجحت، فى اعتقادى. نظَّم الشباب، من الديمقراطيين والإخوان، معا، مؤتمرا فى كل مركز ومدينة فى مصر، شارك فيه ممثلون من «معا» وآخرون انتُخِبوا. الأمن القومى الذى هاج وماج حاول بكل السبل تخريب هذه العملية، نجح فى بعض الأحيان، لكنه لم يستطع وقْف العملية كلها دون الدخول فى مواجهة شاملة مع شباب «معا»، وهو ما رفضه القطان. ومع انعقاد المؤتمرات التأسيسية فى المدن والمراكز، اكتسبت العملية زخما أكبر، وبدأ الإعداد لعقد مؤتمر فى كل محافظة يكون تمهيدا لمؤتمر قومى عامّ ينتخب جمعية تأسيسية. ساعتها أدرك القطان الخطر، وبدأ يبحث عن وسيلة لإجهاض هذه العملية. وفى أول سبتمبر، بينما كان القطان يتلقى الصفعات من الأمريكيين والإسرائيلين الذين رفضوا كل مقترحاته للتسوية، كانت المؤتمرات التأسيسية تتشكل فى المحافظات، وحددت لنفسها أول أكتوبر موعدا للانعقاد. قضى القطان سبتمبر يدرس مع قادة هيئة الأمن القومى وسيلة للقضاء على هذه المؤتمرات، ولكن والحق يقال، فإن هيئة الأمن القومى لم تكن فى ذكاء وتغلغل مباحث أمن الدولة، لا كان عندها شبكتها القديمة من المخبرين والمتعاونين، ولا القدرة على مكافأة وعقاب الناس مثل أمن الدولة، ولا حتى الخبرة اللازمة للتعامل مع الناس. ومن حين إلى آخَر كنت أسمع القطان وهو يلعن اليوم الذى اجتثَّ فيه عزالدين السفاح أمن الدولة وأعدم معظم قادتها. لكن اللعن لم يُفِده كثيرا، وانتهى الأمر بأن نجحت القيادات الأمنية فى إفشال المؤتمرات التأسيسية فى المنوفية، والبحر الأحمر ومصر الجديدة (التى أصرَّت على عقد مؤتمرها الخاص)، لكنها انعقدت فى كل المحافظات الأخرى. حددت هذه المؤتمرات ملامح المرحلة الانتقالية ومدتها، واتفقت على تبنِّى «الإعلان المصرى لحقوق المواطن» وثيقة دستورية حاكمة، واختار كل مؤتمر عشرة ممثلين ليشاركوا فى مؤتمر قومى تأسيسى ينعقد فى منتصف نوفمبر، وتكون مهمته بلورة الاتفاق النهائى على هذه الموضوعات وانتخاب جمعية تأسيسية تضع الدستور وتشكِّل حكومة مؤقتة، والعمل كبرلمان مؤقت إلى حين إجراء انتخابات جديدة. كان وجه القطان محمرّا طوال هذا الشهر، وأصبح واضحا للعيان أن أيام الحكم العسكرى باتت معدودة، ولا مخرج أمامهم إلا التسليم أو استخدام القوة الصريحة لقمع الشعب. وحتى ذلك «الحل» لم يكن حلا، فالعملية التى بدأها شباب «معا» تحولت إلى عملية سياسية واسعة شاركت فيها كل القوى السياسية وشارك فيها الناس العاديون، وأصبحت مثل حية موسى التى ابتلعت كل الأفاعى الصغيرة التى ظل القطان وأمنه يحاولون إطلاقها. كبرت العملية، واحتلت كل الفضاء السياسى والاجتماعى، وكانت جاذبة للجميع، داخل مصر وخارجها، بهدوئها وشمولها وتدرجها. وربما أهم من كل هذا كانت ثابتة، متجذرة فى واقع الناس، اهتزت حين هاجمها الأمن، لكنها لم تسقط. دخل الناس فى النفق الكبير الذى بناه شباب «معا»، وصاروا يدفعون العسكر أمامهم ويتطلعون إلى النور الآتى من آخر النفق. ولم يكن أمام القطان وعساكره إلا الاستسلام أو تفجير النفق بمن فيه. وجلست أرقبه وأنتظر ردّ فعله. ولم يتأخر، إذ استدعانى ذات يوم ووجدت عنده المنيسى، وطلب منا الخروج للتمشى فى باحة المقر الرئاسى المؤقت بوزارة الدفاع، لأن لديه أمرا هاما يريد الحديث فيه دون أن تلتقطه أى وسائل تنصُّت. ع.ش.فشير