أدهش الرفض الشعبى للانقلاب كثيرين، وأنا من بينهم. فقد اعتقدنا أن الشعب قد أُنهِكَ من حالة الفوضى، من تقلب الحكومات، من دموية السفاح وفشل السياسيين الآخرين وانقساماتهم، ومن أزمات الاقتصاد وتعثر الخدمات، ثم من الهزيمة المروِّعة واحتلال شرق سيناء. وتوقعت أن تستقبل الجماهير، الأغلبية الشهيرة بصمتها، العسكريين بالورود والأحضان والزغاريد. كما توقع البعض رد فعل عنيفا من جانب قواعد الإخوان المسلمين وأنصارهم ردا على الإطاحة بالريس بيومى ووزرائه. لكن لم يحدث هذا ولا ذاك. لا استقبل الناس العسكريين بالورود، ولا بالطوب. لكنهم وقفوا فى وجوههم وقالوا لهم أن يعودوا من حيث أتوا. كانت المشاهد الآتية من المدن والقرى مذهلة بحق، فرغم الحرب، والتعبئة، والغضب، واليأس، والفوضى، والعداء القديم، والدم الذى أُريقَ، تعاون اتحاد الشباب الديمقراطى مع شباب الإخوان فى أنحاء مصر كلها، وأقاموا كتلا بشرية على مداخل المدن والقرى والطرق لمنع قوات الجيش من التقدم. وأحاطوا بالمبانى العامة للهيئات والوزارات والمصالح الحكومية لحمايتها من استيلاء العسكريين عليها. حدث كل هذا بتلقائية فور انتشار أخبار الانقلاب، وفى الأماكن التى سبقت إليها قوات الجيش أحاط بهم الناس فى أطواق بشرية لمنعهم من الحركة. وفى خلال أيام قليلة، أعلنت جماعات وائتلافات ومبادرات الشباب الديمقراطى والإسلامى عن قيام الجبهة الموحدة لاستعادة الحكم المدنى. رفضت هذه القيادة الدعوة التى أطلقها البعض ل«العصيان المدنى» وقرروا بدلًا منها دعوة المواطنين كافة ل«الطاعة المدنية»، أى دعوة المواطنين لتسيير أمورهم والاستمرار فى أعمالهم كما هم، ومن خلال القيادات المدنية الشرعية دون غيرها، وعدم الالتفات إلى أى تعليمات تصدر من جهات عسكرية. وكانت الاستجابة لهذه الدعوة شبه تامة، فاستمرت كل المصالح فى عملها دون الالتفات إلى العسكريين وتعليماتهم، ولم يتمكن قائد عسكرى واحد من دخول مصلحة أو هيئة عامة، وبعد أيام من الاضطراب وعدة محاولات فاشلة لاقتحام المؤسسات العامة قررت القيادة العامة للانقلاب التماشى مع هذه الدعوة إلى حين. اجتمع قادة الانقلاب بعد عدة أيام وأعلنوا قبول وقف إطلاق النار بشكل مؤقت، وتشكيل مجلس لإنقاذ مصر، وطلبوا من اللواء القطان رئاسته. وافق اللواء القطان بشرط انضمام ممثلى القوى السياسية إلى المجلس، وهو ما رفضه كل من الإخوان والديمقراطيين، لكن حزبى الوفد والتجمع اللذين نجحا فى البقاء كل هذه السنوات رغم اختفاء عضويتهما بشكل شبه تام، وافقا على الانضمام، ومعهما بعض المسنين من السياسيين السابقين. إلا أن الأطواق المدنية التى أحاطت بمقر الرئاسة منعتهم والعسكريين من الدخول. وبعد عدة أيام من الانتظار، تم نقل هؤلاء المسنين إلى مبنى تابع لوزارة الدفاع، ووقف اللواء القطان فى وسطهم وأمام الكاميرا الوحيدة التى سمحوا لها بالتصوير، وأعلن موافقته على رئاسة مجلس الإنقاذ وقيادة البلاد لمرحلة انتقالية حتى يتم تحرير سيناء وتقنين العلاقة بين المدنيين والعسكريين بشكل يحمى الأمن القومى المصرى ومنع تكرار الأخطاء والمآسى التى وقعت. وأعلن الرئيس القطان، كما صار يُدعى، تعهُّده بعدم إراقة نقطة دم واحدة، وإدارة شؤون البلاد بالتشاور مع الجميع، وعدم المساس بالطابع المدنى لأجهزة الدولة، مشيدا بالدعوة التى أطلقها الشباب ل«الطاعة المدنية». وخلال أيام قليلة تم الإفراج عن معظم الوزراء، فى حين استمر الريس بيومى وبعض المقربين منه رهن الإقامة الجبرية فى منازلهم، وظلت المؤسسات العامة محاصَرة من الجيش، دون أن يتمكن من دخولها. وكما ترى، انقلبت حياتنا رأسا على عقب فى أشهر معدودة؛ فقدت أختى وأبناءها، ودخلنا حربا وخسرناها، ووقع انقلاب عسكرى، كل ذلك فى ستة أشهر. كنت كراكبٍ فى قطار الملاهى، غير أنى لم أركبه باختيارى، ولم يكن فى الأمر ملهاة. أُفاجأ بكارثة، وقبل حتى أن تمر أجد نفسى فى كارثة أخرى، وهكذا. ظللت أترنح فى قطار المآسى هذا ستة أشهر، حتى توقف القطار ووجدت نفسى مُلقًى على الأرض والدنيا تدور بى ولست أعرف لا أين أنا ولا ما حلّ بى بالضبط. لم أكن قد استوعبت مقتل صفية وأبنائها بعد، ولا استوعبت الطريقة التى ماتت بها، وعلمى بالعملية التى أودت بحياتها. ولم يُتَح لى الوقت كى أفكر فى حقيقة دورى أنا فى مقتلها. ظللت ذاهلا، وصامتا، وممتنعا حتى عن التفكير فى الأمر، كأنى أغلق عقلى أمامه، ثم توالت الكوارث وكنت شاهدا عليها كلها، فصار الأمر كأنه عبث أنا المقصود به، كأن الأقدار تصفعنى كى توقظنى من ذهولى. هكذا كنت أفكر أحيانا، حين أستيقظ فى الليل وأمنِّى نفسى بأن كل هذه كوابيس، وأنى سأقوم الآن من فراشى فأجد عبده قد أعد القهوة وجلس ينتظرنى على السطح، ثم نذهب إلى المكتب، وأتحدث إلى صفية على «سكايب» وتحكى لى عن أبنائها وزوجها والحياة فى إيطاليا. لكنى ألتفت فأجد نور بجوارى، مستيقظة، وصامتة، وشاحبة، فأدرك أن ما أهرب منه لم يكن حلما، أن هذه الكوابيس كلها حقائق: صفية قُتلت، بصواريخ بارجة أمريكية قرر المجانين الذين أعمل معهم قصفها، وسيناء احتُلّت، وأعداد لا أعرفها على وجه الدقة ماتت، قُتلت فى معركة لم يكن لها ضرورة، وهناك انقلاب عسكرى كأن كل السنوات التى مرت راحت سُدًى. كأن كل شىء كان سُدًى. لم يبقَ لى أحد فى هذه الدنيا. كل من أعرفهم قُتلوا، والقلة الباقية شاحبة صامتة تنتظر دورها. أحاول النوم ثانية لكنى لا أفلح. أعلم أنى لن أفلح، فأطرد هذه الأفكار كلها وأقوم. لكن إلى أين أطرد هذه الأفكار؟ أخرج من غرفة النوم إلى الصالة فأجد نور تحدق إلىّ والأفكار ماثلة فى ذهنى. أخرج من الصالة فأرى السطح وأتذكر كيف جئت هنا من منشية الطيران وشقتنا التى استولت عليها عائلة الطفل نصف العارى، والثورة الثانية، وركلى بالأقدام، والأمل والإحباط، ومحمود وعزالدين، وعفاف وميرفت وحسن، والمشانق والسجون والقتل. وآخرتها الرئيس القطان، وحفنة دبابات، ومفاوضات انسحاب؟ أطرد الأفكار وأخرج إلى الحديقة، تلك التى زرعت صفية نباتاتها، واحدا واحدا، بيدها، وكانت تختار لى منها زهورا للمائدة! أخرج إلى الشارع، لا أريد أن أرى الشارع، لكن إلى أين أذهب؟ أأعود إلى البيت؟ ولِمَ؟ لا أحب هذا الشعور السقيم بالرثاء لما آل إليه حالى وحالنا. أكره هذا الشعور. الذهول كان مريحا لأنه يحول بينى وبين استيعاب ما حدث. لكنه بدأ ينقشع حين توالت الكوارث وثقلت فوقه فانهار تدريجيا. ووجدت نفسى ملء نفسى، أواجهها، وأواجه ما جرى وما يجرى، وماذا عساى أن أفعل؟ تلك هى الأسئلة. تلك هى الأسئلة التى تفاديتها أعواما طويلة، ثم لم يعُد من الممكن تفاديها. لم يعد ثمة مكان أختبئ فيه أو أخفيها فيه. ليس هناك، حرفيا، مكان يمكننى الذهاب إليه دون أن أواجه هذه الأسئلة، لا البيت ولا العمل ولا الشارع، لا مع نور ولا معك، ولا مع عبده وخديجة وأبنائها، ولا مع أمك أو أبيها الرئيس وتابعه المنيسى. لا مخبأ. لا مفر من مواجهة الأسئلة: أين كنت أنا حين وقع كل هذا؟ هل كنت شاهدا مترجما بين مقعدين، فحسب؟ هل، كما زعمت نور منذ سنوات، لم يكن بيدى فعل شىء ومن ثَم كان علىّ الانسحاب حماية لروحى؟ أم هى مخطئة، وكان علىّ فعل أشياء لا الانسحاب؟ هل كان يجب علىّ الهمس بالنصيحة فى أذن الرئيس مثلما طالبنى عزالدين فكرى قبل الثورة الأولى؟ وهل كان يجب علىّ الهمس أو الصراخ فى وجه الرئيس عزالدين حين أعملَ سيفه فى الرقاب؟ هل كان من واجبى منع هؤلاء الحمقى من مهاجمة بارجة حربية وسط مساكن المدنيين؟ هل كنت أستطيع أيا من هذا أم أنى كنت مجرد شاهد، مترجم، كاتب لمحضر الجلسة؟ لكن ما الفارق؟ ما الفارق بين محاولتى التدخل وعدم التدخل؟ ألم يحاول عزالدين، بكل تصميمه وتخطيطه واحتياطاته ودراسته وعقله وحذره، ففشل فشلا ذريعا وانتهى به الأمر سفّاحا؟ ألم يحاول محمود بكل جنونه واندفاعه ومشاعره وإخلاصه ففشل أيضا وانتهى به الأمر على نفس حبل المشنقة كصاحبه؟ كيف كان يمكن لى أنا، أنا المترجم الهادئ الساكت الذى لا يعرف كيف يصوغ مشاعره وأفكاره فى حُجَج مقنعة، كيف يمكن لى، أنا، غير المتأكد دائما، أن أتدخل وأن يكون فعلى أنجع من أفعال هؤلاء؟ وبمَ كنت سأنصح لو اخترت التدخل؟ كنت سأنصح الريس بيومى والمنيسى بأن لا يهاجموا سفينة حربية من شاطئ ملىء بالسكان. وساعتها، لو افترضنا أنهم استمعوا لى، ألن يهاجموها من مكان آخر، فيقتلوا ويقتلوا ونجد أنفسنا بعد قليل فى نفس النقطة التى نجد أنفسنا فيها الآن؟ وإن كان عزالدين قد استمع لتمتمتى المترددة الناصحة بالتخلى عن فكرته الناصعة الوضوح باستئصال شأفة السلفيين، هل كان شىء سيتغير أم كان السلفيون سيستأصلون شأفته هو وأتباعه وينتهى بنا الأمر عند نفس هذه النقطة أو أسوأ منها؟ طوفان الأسئلة هذا لم يأتِ دفعة واحدة، بل قطرة قطرة. جاءت القطرة الأولى وأنا أفكر بين وبين نفسى فى ما قالته نور عن السلبية والفن والبعد عن السياسة عندما أغلقوا لها مسرحها، ثم تزايدت القطرات بعد الانقلاب العسكرى. وكلما سألت نفسى ولم أجد الجواب زادت الأسئلة، حتى صارت لا تنقطع. وفى وسط ضجيج الأسئلة هذه طلب منى المنيسى المرور عليه فى مقر المخابرات العسكرية بشارع الطيران فى المساء. أظن أن هذا المبنى كان مقر المواجهة بين اللواء محمد نجيب والبكباشى جمال عبد الناصر فى مارس 1954. هل يُعقَل هذا؟ ستة وستون عاما وما زلنا فى نفس الموضوع! ذهبت للقاء المنيسى فوجدت الرئيس القطان فى انتظارى، وقال لى إنه يعمل هنا فى المساء ليتفادى الإزعاج فى مقر الرئاسة المؤقت بوزارة الدفاع. طلب منى العودة لعملى القديم سكرتيرا للمعلومات، ولم يترك فرصة لترددى مؤكدا أنى الشخص الوحيد الذى يعرف أين توجد الملفات وماذا حدث فى الموضوعات الرئيسية خلال سنوات الفوضى السابقة، كما سماها، ومن ثم فمن واجبى المساعدة ولو إلى حين. ثم أضاف أننا أهل، ولن يجد أحدا يثق به أكثر منى. اللواء المنيسى حضر هذه المناقشة كلها وظل يومئ موافقا ومشجِّعا. وفى طريقى للخروج مالّ علىّ وقال إنه سيطلب منهم تجهيز مكتب لى هنا للعمل به مساء حين يأتى الرئيس هنا، فى حين يمكننى الاستمرار فى العمل بمقر الرئاسة صباحا. وطلب منى إبقاء الملفات والأرشيف وكل شىء فى مكانه بمقر الرئاسة، مؤكدا أن الرئيس القطان سينتقل إليه قريبا. ع.ش.فشير