بعض النشطاء السياسيين يسيؤون إلى الفقراء، بينما يدعون أنهم يدافعون عنهم. بمعنى، من الطبيعى أن يقود الفقر إلى التكدس السكانى، ويقود التكدس السكانى إلى أخلاق الزحام كالتدافع والتكالب وعدم الاكتراث باللياقة ولا الخصوصية ولا المهذب من القول والفعل (شكرا، لو سمحت، الصوت المنخفض، إلى آخره). من الطبيعى أن يقود هذا إلى ذاك، لكن هذا لا يعنى أن تلك السلوكيات صارت سلوكيات حميدة. وفارق كبير بين تفهم سلوكيات معينة والدفاع عنها بدعوى أنها «أخلاق البسطاء». بل لا بد من الاستمرار فى نقد السلوك الذى يعتدى على حقوق الآخرين حتى نتخلص منه. ولنتذكر أن السلوك الذى يبدأ كرد فعل لوضع اجتماعى معين يتحول بعد حين إلى طبيعة، وتجد أن الإنسان الذى كان يفعله وهو مستح منه صار يفعله وهو متبجح به. أضرب لك مثلا بمترو الأنفاق. أؤكد لك أن المترو هنا ليس فى أغلب الأحيان أكثر زحاما من المترو فى لندن. لكنه حتى فى الأوقات التى يكون فيها خاليا فإن الداخلين إليه يمارسون نفس السلوك الذى يمارسونه فى الزحام. يقف صف بطول الباب أمام النازلين وبمجرد فتح الباب يندفع هؤلاء إلى داخل المترو، لا يراعون أن من النازلين نساء يزعجهن هذا التزاحم الجسدى، وأطفالا قد يؤذيهم التدافع، ورجالا من حقهم أن ينزلوا من الباب دون إهانة. صديق فيسبوكى دافع مرة عن إلقاء الطوب على الدكتور محمد البرادعى وابنته حين توجها للإدلاء بصوتيهما فى الاستفتاء. وقال فى دفاعه إن هؤلاء بسطاء عبروا عن أنفسهم بالطريقة التى يعرفونها. لم أغضب للدكتور البرادعى بل غضبت ل«البسطاء» الذين يلصق بهم ما ليس فيهم. من قال إن الفقراء فى مصر يضربون رجلا مسنا وابنته بالطوب بسبب الخلاف معه. إن من يفعل ذلك همج سواء كانوا فقراء أم أغنياء. ويجب أن يوصفوا بالهمجية سواء كانوا فقراء أم أغنياء، لا أن يعطى لهم المبرر لتكرار فعلتهم بوصفهم بسطاء أو فقراء، وكأن البسطاء والفقراء مجانين مرفوع عنهم الحرج. هؤلاء النشطاء الذين يدافعون عن هذا السلوك بوصفه «سلوك البسطاء» هم أنفسهم الذين يبالغون عادة فى سب الطبقة الوسطى، التى ينتمى معظمهم إليها، ويستخدم معظمهم أدواتها فى التواصل ك«الإنترنت والفيسبوك»، وطريقتها فى التعبير عن نفسها، كما أن تاريخهم التعليمى ونمط حياتهم، وطريقة اختيارهم لملابسهم، تبين أنهم طبقة وسطى بامتياز. لكن سب الطبقة الوسطى «عَمّال على بطال» جزء من ميراث حقبة ارتبط النضال والثقافة فيها باليسار، وارتبط فيها مصطلح الطبقة الوسطى ب«البرجوازية المتعفنة». الطبقة الوسطى فى أى مجتمع هى عنوانه، وهى حلقة الوصل بين شرائحه، والضمان له من عدم التفسخ. إن اتسعت رقعتها صار المجتمع مستقرا وصحيا، وإن انكمشت صار هذا مدعاة للحذر. لكن الساسة والسياسيين والمناضلين فى مصر حقّروها وهمّشوها. فصار الشارع المصرى فى أزمة أخلاقية عميقة دون أن يدرى، ولا أن يلفت انتباهه ما آل إليه. وصارت الطبقة وأبناؤها بين متبرئ منها ومن أخلاقها لكى يرضى «ضميره النضالى»، ومضطر إلى التخلى عما تربى عليه من هدوء الطبع واعتدال السلوك لكى «يعرف يعيش ويأخذ حقه». المثير للسخرية هنا أن كثيرا من «الفقراء والبسطاء» لهم مداخيل تفوق مداخيل أسر من الطبقة الوسطى، كل الموضوع أن الأخيرة تحب الستر، والظهور بمظهر محترم يحفظ صورتها فى عيون الناس. فهل هذا عيب؟ أبدا. ليت كل إنسان منا يحب أن يظهر بمظهر المحترم فى سلوكه وليس فقط فى مظهره. ففى هذا حل لكثير من مشكلاتنا السلوكية. لكن علينا أولا أن نعيد تعريف السلوك المحترم، لكى نعرف الفارق بينه وغيره. علينا أن لا نخجل من إعادة الاعتبار لقيم الطبقة الوسطى، بعد أن اضطرت ككل مغلوب إلى تقليد سلوك الغالبين. والغالبون هنا هم محترفو الهمجية والسوقية والصوت العالى والعنف، لا الفقراء والبسطاء.