نشر الدكتور جلال أمين كتابه الأهم والأكثر انتشارا «ماذا حدث للمصريين» عام 1998، وكان عبارة عن مجموعة مقالات نشرها بنفس العنوان فى مجلة «الهلال»، بناءً على طلب الأخيرة خلال عامى 1996 و1997، وأضاف إلى تلك المقالات مجموعة أخرى كتبها عن ظاهرة الحراك الاجتماعى فى مصر خلال الخمسين سنة من الفترة من 1945 إلى 1995، هى عمر وعيه وإدراكه لما يحدث، على حد قوله، ولقد مزج فى مقالاته بين تجاربه الشخصية ودراسته الأكاديمية للاقتصاد وتأمله حال المجتمع المصرى، وحاول أن يشرح ما حدث من تغيّر اجتماعى وثقافى فى حياة المصريين خلال تلك الفترة، وأسباب ذلك. وكتاب الدكتور جلال أمين قُوبل بحفاوة كبيرة من المثقفين والعامة، فهو بسيط اللغة عميق الدلالات، وتم طبعه أكثر من مرة، وضمن مكتبة الأسرة. فى الكتاب يجعل الدكتور جلال أمين الانفتاح الاقتصادى غير المدروس (انفتاح السداح مداح) نقطة الانقلاب، وبداية التدنى على كل المستويات. الانفتاح هو المسؤول عن قصور دور مصر فى الخارج والدولة فى الداخل، كما غيَّر نمط الاقتصاد والثقافة والأخلاق فى المجتمع، مع تراجع قيمة العلم والعمل أمام الفهلوة والفساد، انقلب الحال رأسا على عقب، وأدى ارتفاع الأسعار غير المنضبط وغير المراقب من الدولة إلى تآكل الطبقة الوسطى نفسيا ومعنويا وماديا، وبالتالى غياب دورها. إقبال المصريين على قراءة كتاب أمين دليلٌ على رغبة الشعب فى معرفة لماذا وصل بهم الحال إلى ما هم عليه، كيف فَقَدوا قيمهم، وكيف تراجع دور دولتهم التى كانت فى المقدمة لتصبح فى آخر الصف أو قبل الأخير. ما حدث مع «ماذا حدث للمصريين؟» منذ سنوات حدث مؤخرا مع كتاب «الانتحار الفرنسى» لصاحبه إريك زيمور، الصادر فى أكتوبر الماضى، الذى تخطّت مبيعاته كتاب زميلة المهنة فاليرى تريفيلر «شكرا على تلك الأوقات»، التى تحكى فيه قصة الشهور التى عاشتها فى القصر مع الرئيس هولاند كصديقته وسيدة فرنسا الأولى، حتى خروجها منه فى يناير من العام الحالى على أثر خيانته لها مع الممثلة الفرنسية جولى جاييه وشيوع الأمر. كتاب زيمور يبيع 5 آلاف نسخة يوميا على حسب ما نشرته صحيفة «لوبوان»، فهو الكتاب الأكثر رواجا فى فرنسا، والأكثر إثارة للجدل والنقاش إعلاميا، وعلى جميع المستويات. وإيريك زيمور، صحفى وكاتب سياسى، له عديد من الكتب والروايات، وهو مقدّم برامج سياسية، وضيف منتشر فى الفضاء الفرنسى، وهو معروف بميوله اليمينية. الكتاب 500 صفحة، يدرس خلالها الوضع الفرنسى منذ عام 1970 حتى عام 2007، وعبر تحليله الأحداث الكبرى التى عرفتها فرنسا بين التاريخين، يشرح كيف خسرت فرنسا كثيرا من القيم التاريخية التى كانت وراء تعزيز التجانس الوطنى الفرنسى، وبسبب ذلك ضعفت القوة السياسية والاقتصادية الفرنسية، وتراجع بالتالى موقع فرنسا على المسرح الدولى، وهى التى كانت على مدى قرون تفرض أفكارها وصاحبة الريادة الثقافية والتنوير. الانفتاح هو نقطة الانقلاب عند جلال أمين، أما عند زيمور فهو ثورة الطلاب فى مايو 1968، على حد تعبيره، فهى التى غيَّرت وجه فرنسا تماما، ولا تزال آثارها وتداعياتها ممتدة إلى اليوم، فجيل انتفاضة الشباب أفسد الحياة السياسية فى فرنسا، وهو مقتنع بما سبق أن صرح به الرئيس الفرنسى السابق ساركوزى فى بداية عهده عندما قال إن من أهدافه القضاء على ميراث حركة مايو 1968، لأنه، وكل اليمين فى فرنسا، يعتبر أن تلك الحركة شكَّلت تهديدا للسلطة، وشوَّهت المعايير السلوكية لدى المواطنين، ودفعتهم إلى الاستخفاف بقيمة الدولة ومؤسساتها. ويذكّرنى قول ساركوزى ورفاقه اليمنيين بما يتردد الآن عن ثورة 25 يناير، وأنها لم تكن ثورة ولا انتفاضة شعب، لكنها مؤامرة لهدم الدولة المصرية وشبابها المتآمر. لقد قرأت وسمعت عددا كبيرا من حوارات إيريك زيمور مع شخصيات فرنسية معارضة لما جاء فى كتابه وصلت إلى حد الشجار، كما حدث مع مزارين ابنة الرئيس الفرنسى الاشتراكى الراحل فرنسوا ميتران، التى هاجمت ما جاء فى الكتاب، ودافعت بقوة عن موقف اليسار الفرنسى، وأخطاء اليمين، فى حين وجد آخرون أن تحليلات زيمور واقعية. صحة التحليلات والاستنتاجات التى جاءت فى الكتاب ليست موضوع مقالى، الفرنسيون أدرى بشعابهم، لكن ما يعنينى انتشار الكتاب، ليس فقط بين النخبة، لكن فى الشارع، فعنوانه الصادم كان له صدى كبير فى نفوس الشعب الفرنسى المهزوم والمأزوم، فهو يعيش أزمة اقتصادية وتبعية سياسية. فرنسا تحاول أن تتفادى العواصف التى تعصف بكيانها، بسبب سياسات ساركوزى وهولاند، فهى على وشك الوقوع فى شباك التبعية الأمريكية. الشعب الفرنسى غاضب، ومن قبله الشعب المصرى، الذى ثار مرتين على الأنظمة، لكنها ما زالت قائمة، نحن وهم، وأى شعب آخر غيرنا، نعيش هزيمة حضارية ونريد مَن يدلنا على أسباب الهزيمة، ونتمنّى من حُكّامنا أن يسيروا بنا إلى طريق السلامة، واسترجاع أمجاد الماضى أو على الأقل بعض منه. لكن، هل يكفى غضب الشعوب ليفهم الحكام دورهم؟ سؤالٌ، الزمن وحده كفيلٌ بالإجابة عنه.