في أبريل 2011، كانت المرة الأخيرة التي يصطدم فيها المثقفون بجهاز «المطبوعات والصحافة الأجنبية» أو الرقابة على المطبوعات الخارجية، بعد احتجاز 15 نسخة من رواية «أبناء الجبلاوي» الصادرة عن دار العين، وهي النسخ المرتجعة من معرض أبو ظبي، والتي أفرج عنها بعد شهر تقريبا من الاحتجاز. انتهت الأزمة، ونسي المثقفون أمر جهاز الرقابة على المطبوعات الخارجية، ليتكرر الأمر بعد ثلاث سنوات، مع الناشر شريف جوزيف مدير دار التنوير للنشر، بعد احتجاز ثلاثة كتب ضمن شحنة كتب طُبعت في لبنان، وهي "مدخل إلى السيموطيقا" للدكتور نصر حامد أبو زيد وسيزا قاسم، و"في مدح الحب" للفليسوف الفرنسي آلان باديو، ورواية "المبرومة" للكاتب ربيع جابر. تضاربت الأحاديث حول تبعية الجهاز إلى وزارة الإعلام، أم وزارة الداخلية، وأيضًا حول آليات العمل داخل مقر الجهاز الكائن بوسط البلد. معلومات كثيرة كُتبت، إلى أن انتهت أزمة دار التنوير بالافراج عن كتب الدار، لتتوقف وسائل الإعلام عن كتابة أخبار تخص جهاز الرقابة، دون أن نعلم حقيقة الجهاز وطبيعة العمل، وما الذي حدث بالضبط في أزمة دار التنوير، وكيف بدأت وانتهت، وربما لا نعود للحديث عن جهاز الرقابة. بعد مكالمة قصيرة، لتحديد موعد إجراء حوار مع أحمد سليم، المدير الفني لجهاز الرقابة على المطبوعات الخارجية، سألته عن مكان المقابلة، متمنيًا أن يكون بمقر الرقابة على المطبوعات الخارجية بوسط البلد، لأرى من الداخل هذا المبنى الذي يعمل بقانون صدر عام 1936، ثم عُدل عدة مرات، أخرهم في عام 2004، إلا أن أحمد سليم اختار إجراء الحوار في مكتبه بالدور الثامن بمبنى ماسبيرو، الذي ترى من خلال نافذته شوارع وسط القاهرة المزدحمة، وأبراج تجارية عالية الارتفاع، والكورنيش. قبل الحديث عن جهاز الرقابة ودوره، أود معرفة تفاصيل أكثر منك عن أزمة دار التنوير، لماذا احتجزت الكتب لمدة أسبوع، وما الذي حدث حتى أفرج عنها؟ الناشر عندما ينقل شحنة كتب من خارج مصر، يقوم بتسليم فاتورة بها أعداد وأسماء الكتب، ويكون مع موظف الجهاز بالمطار كشف تعبئة للتأكد، من تطابق الفاتورة مع الكشف. "القائمة بها عدد 12 كتاب لدار التنوير منها كتاب نقدي للدكتور جابر عصفور، ولم تقترب الرقابة إلا من الثلاثة كتب فقط، للنظر بها، ولم نحتجز الكتب إلا يومين فقط، حيث خرجت الشحنة من لبنان، في شهر يوليو، ولم تصل مصر إلا في 24 أغسطس، ثم جاءت إلى الرقابة في اليوم الثاني من شهر سبتمبر، وخرجت في اليوم الرابع، ورغم ذلك فإن الناشر شريف جوزيف يتحدث إلى الصحافة ووسائل الإعلام منذ أسبوعين تقريبا، أي قبل أن تصل الكتب إلى الجهاز". ما حدث مع دار التنوير، إجراء طبيعي، وليس فيه مقاومة للإبداع، ولا مصادرة على الحرية. فمندوب الجهاز بالميناء، يقوم بتفتيش صناديق الكتب، للتأكد من أن الكتب ليست آثرية، فهو لا يعرف، قد تكون الكتب سياسية مثلا. وربما يكون في هذه الصناديق، حشيش أو هيروين، وهذه ليست تهمة للناشر، بل للشاحن، لأن الناشر لا يشرف على عملية شحن الكتب. موظف الجهاز اختار كتاب نصر حامد أبو زيد بسبب اعتراضات الأزهر على كتاباته وأرائه، ورواية "المبرومة" لأن اسمها مختلف أثار ريبة الموظف، وأيضا في مديح الحب، وكتب على الثلاثة للاطلاع، وهذا لا يعتبر مصادرة أو حتى احتجاز. أخطرنا الأزهر بقائمة الكتب التي حصلت الرقابة عليها للاطلاع، ووافق الأزهر على كتاب نصر حامد أبو زيد "مدخل إلى السيموطيقا". ونفس الأمر كان سيتكرر إذا كان هناك كتاب به خريطة لمصر بدون حلايب وشلاتين، نبلغ أجهزة الأمن، ونرسل له الكتاب ليمنع. الرقابة دورها التنسيق بالأساس، إذ ترسل الكتب إلى الجهة المختصة حسب موضوع الكتاب، وإذا وافقت الجهة المعنية نبلغ الناشر بقرار الموافقة. والحقيقة لا أعرف لماذا لم يتحدث المثقفون عن مندوب المصنفات الفنية المتواجد في المطار، الذي يمنع أي راكب من الدخول إلى مصر بأسطوانات عليها أفلام إلا بعد مشاهدتها من قبل المصنفات. الرقابة تنظر في كل المطبوعات الخارجية، ثم تسمح بها أو تمنعها، ما المعايير إذن المحددة للسماح أو المنع؟ المصاحف تذهب إلى الأزهر للتأكد من أن النسخة سليمة، وليس بها أي أخطاء، وكذلك الكتاب المقدس يذهب إلى الكنيسة. كما أن جهاز الرقابة في مصر ليس أمرًا غريبًا، فهو موجود في السعودية والإمارات واسمه جهاز الفسح، وإذا أردت معرفة معنى التشدد الحقيقي في الرقابة فيمكن للمثقفين المعترضين سؤال الدكتور جابر عصفور أو أي مثقف كبير، ليخبرهم بما يفعله جهاز الفسح بالكتب التي تذهب إليهم من مصر. نعود للحديث عن المعايير. إذا لاحظ موظف الجهاز بالمطار صور جنسية في أي من الكتب المشحونة، يعترض على ذلك، ويقول للشاحن هذه الصور غير مقبولة، "ولازم تشوفوا حل"، لكن على مدار الأعوام الثلاثة الأخيرة أو العامين ونصف عام، منذ توليت منصب المدير الفني لجهاز الرقابة على المطبوعات الهارجية، لم يمنع كتاب واحد، مر عليّ خلال هذه المدة معرضين لكتاب القاهرة الدولي، ومعرضين لمكتبة الإسكندرية، ولم تحدث حالة منع واحدة. لكن سبب الضجة التي حدثت في الأيام الأخيرة، أن الموزع والناشر أرادا جذب انتباه القراء، من خلال "الشو الإعلامي"، فأعلن الناشر أن مطبوعاته صودرت، لأنه مازال يفكر بطريقة قديمة، أن القارئ سيقبل على كتاب نصر حامد أبو زيد المُصادر. والناشر شريف جوزيف اتصل بي فعلا، وقلت له نصًا "كتبك حطها على الرف واعرضها للبيع، ولو فيه حد قاللك متبعهاش كلمني، فرد عليّ إنه لا يمكنه ذلك بسبب تعهد كتبه، فطلبت منه نسخة من هذا التعهد، ولم يعطني إياها". كتاب نصر حامد أبو زيد، ورواية ربيع جابر، الأول طبع في مصر عام 1985، والثانية جاءت إلى مصر روايته الكاملة من الخارج وسُمح بها أول مرة، كيف ترى ذلك؟ موظف جهاز الرقابة يأخذ عينات فقط لينظر فيها، ولكن أرى أن الأمر لم يؤثر كثيرا على الناشر، فهو لم يتعطل سوى أيام قليلة، فالكتاب لم يتعطل في جهاز الرقابة سوى يومين فقط. ومصر بها حوالي 14 منفذ تدخل منها الكتب إلى مصر، ولا يمكن الربط بينها في الوقت الحالي، لا يوجد إمكانيات. فأي مواطن إذا ذهب لوزارة الداخلية ليكشف عن اسمه ينتظر لساعات رغم وجود قاعدة بيانات لديهم. لذلك فما حدث مع مطبوعات دار التنوير إجراء روتيني بحت، ولا يستحق الضجة التي نالها. لكن ألا ترى أن منع كتاب في 2014 أصبح أمرا مستحيلا في ظل انتشار الكتب الإلكترونية؟ دور الرقابة على المطبوعات الخارجية هو تقليل فرص دخول الخطر إلى مصر، وليس معنى إتاحة كل الكتب إلكترونيًا، أن تسمح الدولة بمرور كل الكتب، لأن هناك نسبة كبيرة من القراء يبحثون عن الكتب المطبوعة، ولا يقرأون الكتب الإلكترونية. لذلك فوجود ضوابط على الكتاب ضروري جدًا. كما أن "كتب الملحدين متداولة على النت"، وأثرت بشكل ما على الشباب، ولكن إذا تركها الجهاز تدخل إلى مصر ستأثر بشكل أكبر، وستشكل خطر على المجتمع. ومن المسئول بالضبط داخل الجهاز عن منع الكتب ومصادرتها؟ هناك 30 موظفًا في الجهاز، كلهم خريجي كلية الآداب بأقسامها المختلفة، ومن بينهم أشخاص يعملون في الجهاز منذ 36 سنة، ولديهم خبرات كبيرة. ولا تحدث مصادرة لأي كتاب، قبل أن يقرؤه واحد من هؤلاء الموظفين، ثم يكتب عنه تقرير كامل، ويقرؤه اثنان غيره، وإذا اتفق الثلاثة على نفس الرأي، انظر في هذا الكتاب سريعًا، وقد نلجأ إلى أحد المثقفين لقرأته أيضًا، لتتم مصاردته بشكل نهائي. وهل هناك قائمة معينة بأسماء الكتب غير المسموح بدخولها إلى مصر؟ بالطبع هناك قائمة بأسماء الكتب الممنوعة، بها الكتب التي رفضتها الكنيسة أو الأزهر، وأغلبها كتب إما عن ديانات جديدة، أو بها اجتهادات دينية خاطئة. وبالمناسبة هذه القائمة تجدد سنويًا قبل إقامة معرض القاهرة الدولي للكتاب، على عكس ما نشرته جريدة "أخبار الأدب"، وعلى محمد شعير أن يخبرنا باسم الرقيب الذي أجرى معه الحوار، لنتأكد من أنه موجود بالفعل، ونرد على المعلومات التي وردت بالحوار. المثقفون يطالبون قبل أزمة دار التنوير بسنوات بإلغاء الرقابة على المطبوعات الخارجية، فكيف ترى هذا المطلب؟ الرقابة مهتمة الآن بالكتب الدينية، والكتب التي بها خرائط خاطئة لمصر، "ايه اللي يزعل المثقفين ده؟!"، لكن على المثقفين أن يعترضوا إذا مُنع ديوان شعر مثلا. دواوين أبو نواس مثلا تدخل إلى مصر حتى الآن دون أن تمنع، وأيضًا كتاب فنون الجنس عند العرب. والرقابة الآن أصبحت متساهلة تماما، مقارنةً بفترة الثمانينات، فالرقابة وقتها كانت ترسل موظفيها لتفتيش أجنحة المعرض، ومصادرة أي كتاب لا يتطابق مع شروط الجهاز. كما أن المثقفين كثيرًا ما اصطدموا بالأزهر وعارضوه، ولكن في النهاية رأي الأزهر هو الذي يطبق، وأخر قضية كانت فيلم نوح، التي انتهت بعدم عرض الفيلم. في النهاية الإبداع لابد أن يكون له ضوابط، "علياء المهدي بتقول أنا مبدعة، ينفع ننزل صورها العارية في الجرايد، احنا في مجتمع مش هنقول متخلف، لكن شرقي، ويجب احترام أفكاره". السادات ألغى الرقابة على الكتب المطبوعة في مصر، فما الفرق بين ما يُطبع في مصر وما يأتي من الخارج، حتى نقيد الثانية؟ بالفعل السادات ألغى ما يطلق عليه بالرقابة السابقة. ومن وقتها تقريبا لم تصادر روايات أو أي أعمال أدبية، وحتى الروايات القليلة التي صودرت نعلم إنها تملئ المكتبات وفرشات الكتب، ولكن دورنا أن نطبق القانون فقط. نتحدث الآن من مكتبك في مقر ماسبيرو..فإلى أي جهة يتبع جهاز الرقابة؟ وزارة الإعلام بها عدد من ضباط الجيش والشرطة، هل معنى ذلك أنها أصبحت وزارة الدفاع. الرقابة تابعة لوزارة الإعلام، كانت حتى الثمانيات تابعة للداخلية، وكل من يعمل بها منتدبين من الداخلية، لكن الآن اختلف الوضع. جهاز الرقابة على المطبوعات منتدب به عدد من الموظفين المدنيين التابعين لوزارة الداخلية ويتقاضون أجورهم من الداخلية، ولكن يحتاجهم جهاز الرقابة بالمطار، لأن ضباط المطار أصدقائه، ولديه قدرة أكثر على التحرك بالمطار، وإنهاء الإجراءات. لكن لا يوجد ضابط بوزارة الداخلية ينظر في أي كتاب يصل إلى منافذ الجمهورية المختلفة، لأن هذا ليس من اختصاصاتهم. ليس لك تصريح صحفي واحد تقريبا كمدير فني لجهاز الرقابة، فهل هو قرار خاص بك، أم أن طبيعة العمل بالجهاز تحتم ذلك؟ القرار شخصي تمامًا، أنا عملت بالصحافة لسنوات في جرائد عربية مختلفة، ولذلك بعدما عملت إداريًا بوزارة الثقافة، بالهيئة العامة للكتاب تحديدًا، ثم بوزارة الإعلام ابتعدت عن وسائل الإعلام. ولماذا لا يكون عمل الجهاز أكثر شفافية، بحيث يعلن عن الكتب الممنوعة وأسباب المنع، وينسق الجهاز مع وزارة الثقافة مثلا؟ عندما تكون هناك مشكلة يتحدث مسؤول بالجهاز ليوضح التفاصيل، كما حدث خلال أزمة دار التنوير، لكن في الأوقات العادية، لا ضرورة للحديث للإعلام. وبالمناسبة، جهاز الرقابة لم يحتجز كتب التنوير الثلاثة فقط، بل كانت هناك قائمة ضمت عشرة كتب، من بينها كتاب في الشعر الجاهلي لطه حسين، ولم يتحدث أحد من الناشرين إلا شريف جوزيف، وصدر للإعلام وكأن الرقابة قد صادرت الكتب بالفعل. وهل يمكن في المستقبل إلغاء الرقابة على المطبوعات الخارجية؟ إذا أرسلت الجهات المختصة، وهي اتحاد الناشرين، ووزارة الثقافة، خطابًا للوزارة، بأن جهاز الرقابة يعطل عملها، سيحال الأمر إلى رئيس الوزراء، ليقوم بمشروع قانون لإلغاء الجهاز. ووزارة الإعلام أولى ب25 موظف يعملون في هذا الجهاز، والداخلية ستكون سعيدة جدا بعودة موظفيها إليها، وسيستغل خبرته في المركز الصحفي لديه، "مش هيقف في كشك مرور يعني"، لأن هؤلاء الضباط أكثر ثقافة من "بهوات قاعدين في أماكن ثقافية، على الأقل حافظين عناوين كتب، هما –أي المثقفين- مقرأوهاش". وأرى أن هناك قضايا ثقافية أهم كثيرا من قضية الرقابة ليهتم بها المثقفون، عليهم أن يهتموا مثلا بتثقيف الأقاليم. وقد تحدثت مع رئيس تحرير جريدة "أخبار الأدب" طارق الطاهر بعد العدد الذي نُشر فيه موضوع عن الرقابة، وقلت له أنه كان من المفترض الاتصال بي قبل نشر الموضوع، للتحقق من المعلومات المنشورة به.