فى مصر الأقباط يكرهون المسلمين، والمسلمون يكرهون الأقباط، والاثنان يكرهان اليهود.. جملة حوار تجرحك كمصرى يعيش على أرض مصر، لكن عندما تدرك أن قائلها مصرى قبطى يعيش فى فرنسا، تدرك أن تلك هى الصورة التى يتم تداولها فى الخارج، وأن بعض الممارسات هنا أو هناك تمنحها قدرا من المصداقية. الأمر لم -وأتمنى أيضا أن أضيف لن- يصل إلى حدود الكراهية، لكن يجب أن نعترف أن مصر منذ السبعينيات من القرن الماضى ليست هى مصر قبل ذلك التاريخ، هناك أياد تعبث وتضرب ولها مصالحها. العبارة صادمة لأنها تجافى الحقيقة، وصادمة أيضا فى جانب منها لأنها تعبر مع الأسف عن وجه آخر من الحقيقة! ظهرت السيدة العذراء مؤخرا بعد أحداث ماسبيرو لتضمد آلام المصريين، وتعبير «ظهرت» هو تحديدا ما يعبر عن العمق الفكرى للفيلم حول معنى الظهور الأدبى والمادى. دائما ما تتوحد مشاعر المصريين من أجل أن يستجيروا بأم النور فى لحظات الاحتياج للإحساس بالمعجزة. أهم ظهور سياسى للعذراء واكب الهزيمة المصرية بعد 67، تستطيع أن ترى فيه الوجه النفسى يعبر عن نفسه، حيث تجمع الملايين فى شهر أبريل 68، الكل يؤكد أنه شاهد العذراء، وأنها تبارك مصر وشعبها، وأن عبد الناصر كان من بين الملايين الذين باركوا تجليها، ومنحتهم القدرة على العبور بمصر من الهزيمة. إن مجرد التشكيك فى تفاصيل تجلى العذراء يصطدم مباشرة بقناعة دينية، ويبدو أن المخرج المصرى المولد والأبوين نمير عبد المسيح، وكأنه يدخل إلى تلك المنطقة الشائكة، عندما يسأل أمه عن شريط قديم يتم تداوله بين المصريين، وبين الحين والآخر يقولون إنه يؤكد الظهور، بينما قطاع وافر من المصريين، مسلمين وأقباطا، يؤكد ذلك، فإن هناك أيضا قطاعا آخر يرى أن العذراء خير نساء العالمين، كما وصفها القرآن، قد تتجلى فى قلوب الأقباط والمسلمين. الظهور والتجسيد الحسى هو النقطة الساخنة الرؤية بالعقل أم بالقلب؟ الناس رأت العذراء لأنهم يريدون ذلك، وهو ما تكرر مؤخرا بعد أحداث ماسبيرو. الفيلم الذى قدمه نمير، يتوازى به خطان تسجيلى ودرامى، الأول هو الرؤية التسجيلية لمخرج قرر أن يصنع فيلما عن حقيقة التجلى، والثانى هو أن يعيد دراميا تمثيل الحدث. الأم تعبر عن القلب الذى يرى فى ظهور العذراء يقينا لا يحتمل التشكيك، بينما نمير هو العقل الذى يريد أن يقتنع بإمكانية حدوث المعجزة، رغم أن المعجزة نصفها كذلك، لأنها لا تخضع لمقاييس وحسابات العقل. الابن الذى قرر أن يأتى إلى مصر وينتقل إلى الصعيد فى نفس القرية الصغيرة التى عاش فيها واحتضنته طفلا، يقدم أهالى القرية وهم فى مولد السيدة العذراء يهتفون «الصحافة فين العذراء أهه» أو «بص شوف العذرا بتعمل إيه»، وهى نداءات تجرح بالتأكيد فى جانب منها روح الدين، إلا أنها تعبر عن وجه آخر للصورة، وهو الانشغال المادى بالعذراء، وإحالتها إلى معركة أو مباراة بين فريقين، والحقيقة أن العذراء هى التى تجمّع على حبها المصريون برؤية تجاوزت الدين، إلا أن هناك أيضا مظاهر الشحن الطائفى عند المتطرفين المسلمين والأقباط ترى أن العقيدة والهوية الدينية قبل الانتماء الوطنى، وهكذا يبدو لى اللجوء إلى تلك النداءات التى تصلح فقط لمباريات الكرة. السؤال عن حقيقة تجلى العذراء كان هو نقطة الانطلاق فى الفيلم، لكنه ليس هو الفيلم الأهم بأن المخرج قدم لنا مصريين يعيشون فى صعيد مصر لتنتهى الأحداث، والأم والابن فى طريق العودة إلى باريس.. السؤال أحاله نمير إلى حالة هزلية كوميدية يشارك فيها عدد من أهل قريته بأداء مشاهد تعيد تجسيد ظهور العذراء، كانت هذه المشاهد تقودنا لكى نرى المصريين هم المصريون، لا تفرق بينهم عقيدة كما لا تميز بين وجه وآخر، إنهم أهل نمير عبد المسيح الفقراء، الذين كان يبدو أن أمه فى البداية لا تريد أن توثق حياتهم فى السينما. هكذا تخرج من الفيلم وأنت ناسى السؤال عن حقيقة التجلى، لأن الذى تجلى فى الفيلم هو روح المصريين، والذى تجلى أيضا بإبداع فنى فى الرؤيتين البصرية والصوتية للشريط، هو المخرج نمير عبد المسيح!