"الرقابة النووية والإشعاعية" خارطة الطريق العربية 2024-2030 خطوة محورية لتعزيز القدرات للتصدي للطوارئ    شيخ الأزهر من ماليزيا: الجرأةُ على التَّكفيرِ والتَّفسيقِ كفيلة بهدم المجتمع الإسلامي    أسبوع رئاسي حاسم.. قرارات جمهورية قوية وتكليفات مهمة للحكومة الجديدة    الرئيس السيسي يهنئ الجاليات المصرية المسلمة بالخارج بمناسبة حلول العام الهجري الجديد    «الشكاوى الحكومية» تتعامل مع 155 ألف طلب خلال شهر يونيو 2024    «البلطى ب75».. أسعار السمك اليوم الجمعة 5 يوليو 2024 في أسواق الإسكندرية    وزير المالية فى أول لقاء بقيادات الوزارة: هدفنا مساندة الفئات الأولى بالرعاية والحد من آثار التضخم    البيئة تتابع تنفيذ إقامة أول محطة بمصر لتحويل المخلفات إلى طاقة كهربائية    مصر تفوز بجائزة أفضل جناح بمعرض دار السلام الدولى فى تنزانيا    محافظ القليوبية يتفقد مشروعات حياة كريمة ومنطقة الشروق الصناعية    عاجل.. الأمن القيرغستاني يعلن إحباط محاولة ل "الاستيلاء على السلطة باستخدام القوة" في البلاد    انطلاق التصويت في جولة الإعادة بالانتخابات الرئاسية في إيران    السودان على شفير المجاعة.. 14 منطقة مهددة من انعدام الأمن الغذائي    إقالة فيليكس سانشيز من تدريب منتخب الإكوادور بعد وداع كوبا أمريكا    معلق مباراة البرتغال وفرنسا في ربع نهائي امم اوروبا يورو 2024    تحذير للمصطافين من ارتفاع الأمواج بشواطئ الإسكندرية.. «أعلام ب3 ألوان»    غداً.. 52 ألف طالب وطالبة بالثانوية العامة يؤدون امتحانات الكيمياء والجغرافيا بالشرقية    المحكمة تحدد مصير حسين الشحات بتهمة التعدى على الشيبى 9 يوليو    مصرع شخصين غرقا إثر انقلاب سيارة ملاكى داخل ترعة المنصورية بالدقهلية    حريق درب الأغوات .. النار أكلت الأخضر واليابس (صور)    سيولة وانتظام حركة السيارات في القاهرة والجيزة.. النشرة المرورية    أسماء جلال: «كنت بحب وائل جسار وقولتله إني هتجوزه» (فيديو)    من كان وراء ترشيح ريهام عبدالحكيم للمشاركة في ليلة وردة؟ (مفاجأة)    «القاهرة الإخبارية» ترصد آخر استعدادات مهرجان العلمين.. 8 أسابيع بهجة وتشويق    «إكسترا نيوز»: القضية الفلسطينية ودعم غزة حاضرة بقوة في مهرجان العلمين    مهرجان المسرح المصري يكرم الفنان حسن العدل في افتتاح دورته ال 17    وزارة الصحة الفلسطينية تعلن ارتفاع عدد الشهداء فى العدوان الإسرائيلي على جنين إلى 5    ينطلق غدًا السبت.. تفاصيل برنامج "الساعة 6" على قناة الحياة    طبيب مصري يفوز بالمركز الأول في حفظ القرآن بمسابقة دولية أمريكية    قبل النوم.. فوائد مذهلة للجسم بعد تناول هذا المشروب ليلاً    جولة للمشرف على الرعاية الصحية بالأقصر لمتابعة العمل بمنشآت الهيئة.. صور    الرئاسة التركية: موعد زيارة بوتين إلى تركيا لم يتحدد بعد    مصدر ليلا كورة: ورطة جديدة لاتحاد الكرة بسبب البطولات الأفريقية.. وحل مطروح    متحدث الزمالك: لو طلب المنتخب الأولمبي فريقنا كاملا لن نتأخر.. وأتمنى محاسبة الإدارة السابقة    رئيس جامعة القاهرة: وزير العدل قيمة قضائية كبيرة حصل على ثقة القيادة السياسية لكفاءته    الدفاع الروسية تؤكد تدمير 50 مسيّرة أوكرانية داخل البلاد    وزير البترول يتابع ضخ الغاز لشبكة الكهرباء للانتهاء من تخفيف الأحمال قريبًا    أسباب حدوث المياه البيضاء الخلقية عند الأطفال    دعاء الجمعة الأخيرة من العام الهجري.. «اللهم اغفر لنا ذنوبنا»    نص خطبة الجمعة اليوم.. «الهجرة النبوية المشرفة وحديث القرآن عن المهاجرين»    «فأر» بأحد منازل غزة يتسبب في هلع وخوف الجنود الإسرائيليين (فيديو)    أسماء جلال تكشف قصة حبها لوائل جسار: «طلبت منه الزواج.. كان كراش عمري»    30 دقيقة تأخر في حركة القطارات على خط «القاهرة -- الإسكندرية»    سي إن إن: الساعات القادمة قد تكون حاسمة في حياة بايدن السياسية    لامين يامال: لن ألعب أبدًا لريال مدريد    «كاف» يوقع عقوبة مالية على صامويل إيتو بسبب اتهامات بالتلاعب    تامر عبدالحميد يوجه رسالة حادة لمجلس الزمالك بعد حل أزمة الرخصة الإفريقية    الشيخ خالد الجندي: من رأى سارق الكهرباء ولم يبلغ عنه أصبح مشاركا في السرقة    الإفتاء تستطلع هلال شهر المحرم اليوم    انفجار ماسورة مياه في حي الزهور بمحافظة الشرقية    وزارة الأوقاف تفتتح 16 مسجدًا.. اليوم    ملف رياضة مصراوي.. قائمة المنتخب الأوليمبي.. فوز الأهلي.. وتصريحات كولر    ياسر صادق يكشف عن تخبط في تعيين الحكام في دورة الترقي بسبب واقعة نادر قمر الدولة    عاجل - آخر تحديثات أسعار الذهب اليوم الجمعة 5 يوليو 2024    موقع التحويل الإلكتروني بين المدارس 2024 - 2025 (الموعد والأوراق المطلوبة)    «الدواء موجود وصرفه متأخر».. الصحة: تحقيق عاجل مع مسؤولي مستشفيات الإسكندرية    عاجل - الرابط الرسمي ل نتائج الصف التاسع 2024 سوريا عبر موقع وزارة التربية السورية moed.gov.sy    الصحة: انتهاء أزمة نقص الأدوية تماما خلال شهرين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حديث في النفس والثقافة والتصوف والسياسة
المجتمع المصري مازال الأكثر أماناً رغم حالات العنف
نشر في الأخبار يوم 22 - 09 - 2010

عندما يتحدث أهل الاختصاص يصبح للحديث قيمة خاصة، وتصبح القيمة مضافة اذا كان المتحدث عالما واديبا وكاتبا في وقت واحد، فالرؤية تتسع أكثر لتحتوي الكثير من علامات الاستفهام التي تحتاج الانطفاء، كما هو الحال مع د. يحيي الرخاوي، فهو عالم النفس وطبيبها، وهو الاديب الروائي والشاعر، وكلا الوجهين ينهلان من معين واحد هو النفس الإنسانية بعذاباتها وأشواقها،، وأنواعها ونوعياتها من نفس لوامة، ونفس مطمئنة، ونفس أمارة بالسوء، وما دون ذلك. . يؤكد د. يحيي الرخاوي كعالم نفس ان الأمان في الإيمان، وأن الدين ليس ضرورة نفسية ابتدعها الإنسان ليمشي حاله، انما هو التجلي السلوكي لغريزة التوازن الحيوي التي تحقق هارمونية دوائر الوعي الممتدة إلي ما وسع كرسيه السماوات والأرض بلا نهاية، وفي نفس الوقت هو تنظيم جماعي اجتماعي، وما لم يتشوه، فهو طريق واعد بالتكامل البشري، إلي وجه الحق تعالي.. ويرفض ما يسمي ب » المواطن العالمي« لكن الذي يوجد حقيقة الآن علي الساحة العالمية هو »مشروع الإنسان الأكمل« .. ويبشر الدكتور الرخاوي بأن جوهر الشخصية المصرية بخير وان المجتمع المصري مازال من أكثر المجتمعات أمانا والعلاقات فيما بيننا ما زالت من أدفأ وأطيب العلاقات.. ويطالب - في هذه المحاورة - باعادة تعريف الخرافة حتي لا تختلط مع الغيب، وفي نفس الوقت بإعادة النظر في دور التكنولوجيا في حياتنا، ويحذر العالم النفسي من الإفراط في التفسيرات النفسية للذين يطرحون أدق خصوصياتهم علي هواء القنوات الفضائية، ويصف ذلك بأنه قشور القشور لا أكثر، وفائدته متواضعة جدا.. ولأن ذكاء السؤال يحمل جوابه في احيان كثيرة، فهو يري - في اطار نقد الذات وليس جلد الذات - ان من أهم عيوب مجتمعنا أننا نجيب قبل أن يكتمل السؤال، ويتمني ممارسة ثقافة الأسئلة ، لأننا نتوقف عند أسئلة إجاباتها ليست إلا تحصيل حاصل.
❊ من اللحظة الراهنة تجلت الومضة الأولي لهذه المحاورة، فسألت د. الرخاوي: في أي مرحلة من التاريخ أنت تعيش فالثنائيات المتعارضة تتجاور، والمتناقضات تتآلف في المجتمع والعصر عموما؟
❊❊ أنا أعيش »هنا الآن«، أنا أعيش عصري الحاضر لحظة بلحظة، لا أتحسر علي الماضي أبدا، فاليوم هو أروع لحظات الزمان، لأن زمن الفعل هو »الآن«، والمستقبل هو نتاج ما أفعله »الآن« أما حكايات ثنائيات المجتمع المصري فأنا أتعجب ممن يعترض عليها، المجتمع بدون ثنائيات تتناقض وتتصارع وتتحاور وتتشكل معا: يصبح مجتمعا ماسخا راكدا، وللأسف فإن بعض من يرفض هذه الثنائيات ويصفها بالفصام هو جاهل بالفصام كما أنه جاهل بحركية الثنائيات.
❊ كنت شاهدا صحفيا علي توهجك الإبداعي في مطالع مسيرتك منذ عقد السبعينيات، أيام أصدرت رواية (الواقعة: المشي علي الصراط، ومدرسة العراة) ما بين تلك البداية والمرحلة الآنية التي تواكبها اليوم.. ما هي المحطات التي انتظمت سيرورتك وصيرورتك؟
❊❊ أشكرك وأتحفظ علي حكاية (التوهج الإبداعي) هذه، فأنا أنتمي لنظرية تقول إن الإبداع هو إحدي صور نشاط الشخص العادي، وبالذات في عملية نشاط الحلم، أما ما ذكرت وأسميته التوهج الإبداعي فهو ليس إلا الناتج الإبداعي الذي أفرزته اجتهاداتي التي تحركت من خلال بعض خبرتي المهنية بالذات حتي ذلك الحين. هذا، وقد أتممت الجزء الثالث من هذا العمل الذي أشرت إليه، فصارت ثلاثية ونشر هذا الجزء الثالث بواسطة الهيئة العامة للكتاب باسم »ملحمة الرحيل والعوْد«، سنة، 2008 ثم أني أكتب نشرة يومية منذ ثلاث سنوات في موقعي www.rakhawy.org باسم الإنسان خيوط قوية وقوي خفية
❊ في الحرم الجامعي .. في العيادة ..في المستشفي.. في صومعته المنزلية..في المسافة المتحركة بين البحث العلمي والابداع الأدبي قصا وشعرا ونقدا ونصا،والممارسة العملية للطب النفسي.. ثمة خيوط قوية، وقوي خفية، ما دلالة تعدد أشكال إنتاجك، هل هو »مأزق وجودي« وأنت القائل: »لا أضرب الدفوف في مواكب الكلام، ولا أدغدغ النغمْ. لا أنحتُ النقوشَ حول أطراف الجملْ، أو أطلبُ الرّضَا. ولا أقولُ ما يقرّظ الجمالَ..، يحتضرْ. أو يُسكر الثوّار بالأمل«.
❊❊ يا خبر!! من أين لك هذه القصيدة التي لا أذكر أنها نشرت أصلا، هي قصيدة »ياليت شعري لست شاعرا« وهي نفي لتصنيفي شاعرا، وايضا بها احتمال ادعاء تواضع وهو أخبث من الفخر، أما موقفي من كل ما ذكرت فيمكن أن تسميه »مأزق منهج« بعد مأزق اتساع البصيرة بفضل ما تعرضت له من مواكبة حركية »مرضاي«، وخاصة المجانين منهم، هذه الحركة المتنوعة الأشكال أوصلتني إلي رؤية أشمل من أن تستوعبها هي غالبا المناهج التقليدية المتاحة (وخاصة البحث العلمي السلطوي) لم تستطع أن تحتوي هذه المناهج ما وصلني من ممارستي مهنتي وتعرية ذاتي معاً، فكان ما كان من هذا التنوع باستعمال أكثر من أداة ومنهج، والتنقل فيما بينهما، وان كان ذلك قد أثر حتماً علي تركيزي علي منهج واحد أو شكل واحد من أشكال الإبداع، وأتصور أنني لو اكتفيت بمنهج واحد وأتقنته لحققت ما كان ينبغي أن أحققه، لست متأكدا.
منطلقات إيمانية
❊ تتكشف في أعمالك إيماءات شتي الي جذور التكوين والمرجعيات العرفية والمعرفية والاخلاقية والجمالية، وإشارات ملتبسة الي عدم فصل مصادر المعرفة لديك (العلم والدين والفن والأسطورة) فصلا تعسفيا بعضها عن بعض..
❊❊ هذا صحيح، ذلك العلم المؤسسي، أصبح منغلقا في منهج يستحق اسمه الجديد »دين العلم، وهو منهج لا يستطيع أن يغطي تاريخ الانسان الذي يحوي تاريخ الحياة كلها، الأحياء قبلنا حافظت علي بقائها، برغم أن الذي نجح في اتقاء الانقراض هو، 001٪ - أي واحد في الألف- من كل الأحياء من بينها الانسان والجراد والنمل مثلا، فكيف يصل بالانسان الغرور أن ينكر، أو يتكبر علي، كل البرامج المعرفية التي يحملها بداخله، من هنا تأتي منطلقاتي إلي الايمان كمعرفة وكشف عن طريق الدين، وأحيانا بشكل مباشر، وإلي الفن أيضا وهو وسيلة تحريك للوعي ومن ثم الكشف فهو معرفة، أما الاسطورة فهي التاريخ الحقيقي الذي سجله وعي الشعوب، وهو عندي أكثر مصداقية من التاريخ المكتوب الموثق بشكل أو بآخر، الذي حفظ الاسطورة هو وعي الشعوب المتواصل فكيف لا تكون مصدرا للمعرفة، كل ذلك كشفه لي مرضاي، أنا أعالج مريضي الآن بأن أقرأه ناقدا لنعيد تشكيله معا، كما يعيد الناقد تشكيل النص الأدبي، الفرق بين نقد النص الأدبي ونقص النص البشري هو أن النص البشري يشترك في النقد معي، المريض الذهاني (المجنون) هو أسطورة حية وهي تكشف عن كثير من طبقات وعيه الأعمق أحياناً في فجاجة وأحيانا في ثورة مجهضة.
أسرار الناس علي الهواء
❊ بمناسبة الحديث عن الجنون الايجابي والاسطوري عندي ملاحظة: فيما مضي كان الكاتب ذو الخبرة والرؤية علي صفحات الصحف اليومية هو الطبيب الذي يعالج اوجاع الناس النفسية والعاطفية والوجدانية، ثم جاء وقت أصبح فيه الطب النفسي بعقاقيره وأدويته هو الملجأ، ثم عادت البرامج التليفزيونية تستقطب الجماهير حتي انهم يطرحون ادق خصوصياتهم علي الهواء مباشرة، بأساليب الكشف والفضح بلا ستر.. ما دلالة ذلك؟
❊❊ من حق الناس الحصول علي المعرفة - بما في ذلك معرفة أنفسهم - من كل المصادر بلا استثناء، أنا شخصيا أتعلم المعارف النفسية من الأدب بنفس القدر وربما أكثر مما أتعلمها من المصادر النفسية العلمية التقليدية، وقد صدر لي منذ أربعة أعوام كتاب في النقد بعنوان »تبادل الأقنعة« سنة 2006 من منشورات قصور الثقافة، وهو »بمثابة التفسير الأدبي للنفس« بما يقابل ويوازن ما يسمي »التفسير النفسي للأدب«، في هذا الكتاب بينت من خلال أعمالي النقدية كيف تعلمت من ديستويفسكي ونجيب محفوظ وغيرهما أعمق أغوار النفس الإنسانية. أما دور الاعلام في إنارة هذه المنطقة فله وعليه، فمن ناحية قد يصل الأمر إلي تسطيح ضار واختزال مخل، وخاصة في كثير من الأفلام والمسلسلات، وقد يصل إلي تشويه المريض النفسي وإفساد فهم المرض النفسي وتسطيح ما هو علاج نفسي، لكن هناك عددا أقل من الأعمال الدرامية وبعض الأحاديث قد تساهم في إضاءة بعض جوانب النفس بشكل جيد، فقط أحذر من الإفراط في التفسيرات النفسية حتي لا نقع فيما اسميته: »نفسنة الحياة المعاصرة«، أما حكاية يطرحون أدق خصوصياتهم علي الهواء، فإني أري أن ما يطرح علي الهواء هو قشور القشور لا أكثر، وفائدته متواضعة أبلغ التواضع.
ثقافة الأسئلة
❊ ولأن الشئ بالشئ يذكر.. ألا تلاحظ تغييب ثقافة الأسئلة، وانها ثقافة نفتقدها ونفتقر اليها مع أننا نحتاج اليها ربما تستقيم منظومة القيم التي أصابها الاختلال، واعلم أنك تري ان »المستقبل يتوقف في الإجابة علي أسئلة جوهرية تحدد هويتنا وقدراتنا«.
❊❊ يا رجل!! أنت تذكرني بمواقف مهمة، وكلام جري علي قلمي فعلا، لكن دعني أذكرك أن مثل هذه المقتطفات لا تؤخذ وحدها وإنما في سياقها، ثم أقول: عندك حق: إن ذكاء السؤال أحيانا يحمل جوابه، فهو لا يحتاج إلي جواب إلا أن يختزله، إن من أهم عيوب مجتمعنا أننا نجيب قبل أن يكتمل السؤال، أو أننا نتوقف عند أسئلة إجاباتها ليست إلا »تحصيل حاصل«، هذه الأسئلة المسطحة الفاترة تطرح أحيانا من مراكز علمية مسئولة ومهمة جدا مثل مركز المعلومات التابع لرئاسة الوزراء، كثير من تلك الأسئلة تحمل إجاباتها بشكل آليّ، وعدد آخر يكاد يقر ببلاهة المسئول، السؤال الجيد والمحرّك هو الذي يظل مثيرا للدهشة حتي لو لم نجد له إجابة شافية، كتبت مرة عن »فضيلة الدهشة« التي هي الأرضية الخصبة التي يترعرع فيها الإبداع، الإجابات الإيجابية التي أشرت إليها في سؤالك هي مسألة شخصية تبرر مسيرتي الفردية (الآن) وهي قابلة دائما أبدا للتغيير والتحريك، كما أنها - بصفتها فردية - لا تصلح أن تكون حلا جماعيا للمجتمع، هي مجرد عينة للإصرار علي تحمل مسئولية »التفاؤل« بالعمل علي تحقيقه بدءًا بالآن، وباستمرار.
الحوار المفقود
❊ الحوار مفقود في المجتمع.. فما هو الحوار المطلوب، وما هي نوعية الحوار المفقود؟
❊❊ أغلب أنواع الحوار الجاري هي مفرغة من زخم الاختلاف المسئول، وهي إما حوارات الكر والفر، أو الفخر والهجاء، أو النفاق والتفويت وادعاء »قبول الآخر« (واللي في القلب في القلب) وإليك مقطعا من قصيدة »اللبن المر« من ديواني »سر اللعبة« 1974 »والكل يدافع عن شئ لا يعرفه.. بحماس لا يهدأ أبدا:- ما حال الدنيا؟ - الدفع تأخر - هل نمتَ الليلة؟ - الأسهم زادت - كم سعر الذهب اليوم؟ - المأتم بعد العصر«
ان الحوار الذي افتقده هو الذي يخرج منه المحاور وقد وصلته دعوة إلي أن هناك احتمالا آخر لما بدأ به اختلافه مع من يحاوره، ثم حين ينصرف إلي نفسه يتبقي في وعيه بعض هذا الذي وصله، هذا نوع نادر الآن من الحوار أفتقده وأحزن علي غيابه.
هارمونية الإيمان
❊ ألمح وألمس في ثوابت الرؤية الإبداعية لديك ان الأمان في الإيمان، وأن الدرع الحقيقي هو الانتماء للمجتمع ومحاسبة الله، الله بمعني الحق، والعدل، فهل الدين ضرورة نفسية، وحاجة اجتماعية، لكن ثم من يشكك في ذلك، ما هي رؤيتك؟
❊❊ الدين غير الإيمان، وإن كان أحد الطرق إليه، وربما هو أهم الطرق إليه، »قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ« حركية الإبداع هي توجه إيمانيّ بالضرورة حتي لو لم يقر بذلك المبدع نفسه. الدين ليس ضرورة نفسية ابتدعها الإنسان ليمشي حاله، هو التجلي السلوكي لغريزة التوازن الحيوي التي تحقق هارمونية دوائر الوعي الممتدة إلي ما وسع كرسيه السماوات والأرض بلا نهاية، وفي نفس الوقت هو تنظيم جماعي اجتماعي، وما لم يتشوه، فهو طريق واعد بالتكامل البشري، إلي وجه الحق تعالي.
»العارف بالله« لا »العارف لله«
❊ في عباءة التصوف .. لك ومضات وتجليات (في رحاب النفري) كيف تري التصوف الآن ودوره وهل هو هروب من الواقع؟ أم قوة دفع خفية؟ هل هو زهد عن ضعف؟
❊ هو ليس زهدا أبدا، زهد في ماذا بالله عليك، كيف يكون المتصوف زاهدا في الحياة وتصوفه ليس »إلا ملء الوقت بما هو أحق بالوقت« والأغرب في السؤال هو تصور أن هذا الزهد هو عن ضعف، التصوف الحقيقي لا يسمي كذلك إلا إذا كان مسارا علي قمة قوة المواجهة وكدح السعي، وكذلك فإن التصوف هو تعميق الواقع للوصول إلي المعني الأعمق لاستمرارنا أحياء نسعي في تناسق مع دوائر الوعي الممتدة. التصوف لا يسمي تصوفا حين يبلغ منتهاه، التصوف سبيل إلي المعرفة، ولنتذكر أن الاسم الذي يطلق علي المتصوف أحيانا هو »العارف بالله« وليس »العارف لله« السعي بالله إلي المعرفة غير ادعاء معرفة الله تحديدا.
❊ ما تفسيركم لحالات العنف الاجتماعي التي تتفجر بكثرة الآن؟
❊ العنف الاجتماعي موجود عبر التاريخ، الأساطير كلها تقريبا تحكي عن عنف اجتماعي بلا حدود، والمجتمعات التي نصفها بالتمدن والتحضر والتقدم مليئة بكل أنواع العنف الاجتماعي، وما ظهر عندنا مؤخرا لا يصل إلي حد الظاهرة، وهو موجود من قديم لكن الإعلام الآن برغم أنه يقوم بدور مهم إلا أن له وجها خطرا إن لم يرتفع إلي مسئوليته، فهو يهول ويعمم ويرهب، ويبالغ حتي تبدو صورة المجتمع علي غير حقيقتها، مجتمعنا مازال من أكثر المجتمعات أمانا، والعلاقات البشرية فيما بيننا ما زالت من أدفأ وأطيب العلاقات وهذا لا ينفي بشاعة وخطورة العنف الاجتماعي الذي تصلنا أخباره مفزعة منذرة.
حاملو توكيلات المصريين
❊ كل من هب ودب أصبح يتحدث باسم المصريين نفسيا واجتماعيا، ويطرح همومهم وكأنه حامل توكيلات منهم.. ما هي الضوابط التي ينبغي ان تحكم ذلك؟ وكيف يتحقق التوازن في الرؤية؟
❊❊ مع عظيم شكري وتقديري للدكتور جلال أمين الذي أصدر كتابه الأهم »ماذا حدث للمصريين في نصف قرن«، وهو كتاب اقرب إلي السيرة الذاتية التي توالت تباعاً في أعماله بعد ذلك، إلا أنه بهذا الكتاب قد سنَّ سنة خطرة جعلت هذا التعبير»ماذا حدث للمصريين« بدعة علي الدكتور جلال أمين وزرها ووزر من عمل بها إلي أن يتوقف هذا السيل المتدفق من الإسقاط ،والتعميم، والشجب، والبكاء (أو التباكي) علي الماضي، والأحكام الفوقية، وكل ذلك يخرج لنا صوراً مسطحة وانطباعات فجة عن رأي الكاتب في نفسه وفي الأقربين منه، وليس عن المصريين.وعلي الجانب الآخر فإن المعلومات التي تصدر عن مراكز محترمة مثل »مركز المعلومات التابع لرئاسة الوزراء، وهي معلومات مهمة، إلا أنها أيضا الاستسلام لها وللتعميم استسهالا، وهي تحتاج لقراءة نقدية في كل من »المنهج« و»تمثيل العينة« و»إيحائية الأسئلة« و»سذاجتها« في كثير من الأحيان، كل ذلك يحتاج إلي قراءة جادة ناقدة لاحتمالات التعميم، وإلي الحذر من عبادة الأرقام ، حين طلبت مني احدي دور النشر أن أكتب كتابا عن »ماذا حدث للمصريين« عجزت، وخطر لي أن أغيّر العنوان إلي »بعض وصف بعض مصر الآن« لكن الفرصة لم تسمح بإكمال العمل.
جوهر الشخصية المصرية
❊ انت ضد التعميم.. والمنهج العلمي يساند رؤاك .. لكن يمكن تكثيف جوهر الشخصية المصرية من منظور عالم نفسي وكاتب وأديب مثلك .. و في هذا السياق ثمة مفارقات من قبيل: كثرة الاعمال الفنية الكوميدية لشعب يعيش في حالة من الاكتئاب والتشتت وضبابية الرؤية، وحديث الفقر مع احصائيات تقول أن المصريين يدفعون 32 مليار جنيه فواتير الاتصالات، و28 ملياراً للدروس الخصوصية.. وفاتورة رمضان السنوية 500 مليون جنيه
❊❊ أولا: أظن انني أوردت الاجابة علي الجزء الأول من هذا التساؤل في إجابتي عن السؤال السابق.
ثانيا: أنا لم أعد أشاهد الاعمال الكوميدية الأحدث، وأعتقد أنها مختلفة تماما عما كنت معتادا مشاهدته من أول مسرحيات الريحاني حتي ريا وسكينة مرورا بفؤاد المهندس، أنا اسأل أولادي وأحفادي عن مسرحية كوميدية جديدة تستأهل، ولا يجيبونني إجابات شافية ربما لتشتيت وقتهم ومشاهداتهم هم الآخرين بين الفضائيات والمحليات، وربما لأن أغلب ما يسمي الكوميديا الآن أصبح قفشات وإفيهات (غالبا)
ثالثا: أنا أرفض غالبا هذا التعبير الذي يتكرر مؤخرا »نحن نعيش في حالة »اكتئاب« من قال هذا ولماذا؟ علينا أن نتذكر أنه ليس كل من ضَجِر لأنه رأي ما يستحق الضجر يمكن أن نعلق عليه لافتة مرضية اسمها »الاكتئاب«، علينا أن نُرعب من اللامبالاة وليس من الاكتئاب، الانسان المصري الذي يعيش ما نعيشه معاً هذه الأيام، ولا يحزن للجاري هو لا يشاركنا آلامنا ومسئوليتنا وحيرتنا وظروفنا، وكل هذا لا ينبغي أن يتناقض مع الكوميديا، أحيانا تكشف الكوميديا عن واقع عارٍ يحرك فينا اكتئابا ضاحكا ساخرا قاسيا.
هذا هو المثقف الحقيقي
❊ تشخيص المشاكل.. كثير، وتجسيد الاوضاع المختلة.. أكثر، كميات هائلة من هذا وذاك، نريد الحلول من أهل الذكر كل في مجال اختصاصه ، وكفانا جلدا للذات.. أنتم المثقفون أشعلوا المصابيح، وأنت تلاحظ في مرحلتنا الراهنة أن العقل المصري يتمطي في تكاسل خائف بعد طول سبات، وهو يتحسس طريقه بين شواهد القبور ومعلقات المتاحف، ألم تقل:
كل القلم ما اتقصف يطلعْ لُه سن جديدْ، وايش تعمل الكلْمَةْ يَابَا، والقدَرْ مواعيد
خلق القلم مِالعَدَمْ أوراقْ، وِ..مَلاَهَا، وانْ كان عاجبْنٍي وَجَبْ، ولاّ أتنّي بعيدْ.
❊ أتوقف عند ما جاء في السؤال »أنتم المثقفون« ثم أتوقف من جديد عند تعبير »بعد طول سبات«، فلا أنا من هؤلاء المثفقين ولا المثفقون قد طال سباتهم.
المثفف عندي ليس هو من يجلس في المجلس الأعلي للثقافة، ولكنه الشخص الذي يستوعب الوعي الجمعي لناسه الأقرب (من أي جماعة أو ثفافة فرعية) ويمثله، ثم يمتد وعيه إلي وعي دوائر أوسع فأوسع ثم يشارك في دفع ناسه من خلال ذلك إلي ما هو أرقي وأثري وأجدّ إبداعا. أما ما اقتطفته من شعري العامي فهو تعبير عن إلحاح قلمي عليّ أن أواصل محاولاتي بكل لغة ومنهج، مهما بدا الإحباط مكررا، وهذا المقطع يحضرني كلما هممت باتخاذ قرار التوقف ولو لفترة.
الناس والسياسة
❊ تعب الناس من السياسة ومن تداعيات أحداثها.. هل تساهم السياسة في إصابة الناس بمزيد من الهموم النفسية؟
❊❊ الانسان سياسي بطبعه، تماما مثلما أن الانسان اجتماعي بطبعه، لا أحد يملك أن يخلع عن نفسه دوره السياسي، السياسة هي المشاركة الايجابيه، وايضا السلبية، في تحديد المجري العام لحياة الناس، ومن هنا أعتقد أننا جميعا نشارك في السياسة بوعي أو بغير قصد. أما عن المشاركة الفعليه برغم الإحباط المتكرر، فهذا هو ما يتحرك الآن بعناد مشكور، برغم ما يحيطنا من هموم وآلام، ولهذا كله دلالاته الصعبة.
❊ الحراك السياسي والاجتماعي في المجتمع المصري .. ما دلالته اليوم وغدا؟
❊ هو حراك حقيقي، لكنه يتراوح بين حسن النيه والحماس والصياح والأمل البعيد، وبعضه حراك فئوي محدود بمطالب خاصة، لكنه يمكن أن يحمل علامات سياسية إيجابية ولو بطريق غير مباشر، تعبير »الاحتقان« الذي يتردد أحيانا يضيف إلي هذا الحراك معني جيد، لكن عموما أنا لا أري في المستقبل القريب علامات تدل علي أن هذا الحراك سوف يؤدي إلي التغيير المنتظر أو المأمول، ومع ذلك أنا مع استمراره، مع الحذر من سوء استعماله.
هل أنت مواطن عالمي؟
❊ هل تعتقد بوجود ما يسمي (المواطن العالمي) في هذه الآونة من العصر؟.
❊ الذي يوجد حقيقة الآن علي الساحة، العالمية هو »مشروع الإنسان الأكمل« تعبير »المواطن العالمي« هو أقرب إلي تسويق فكرة العولمة، ومن يدعو إلي ذلك في خبث يذكرني بحكاية التحكيم بين »علي« و»معاوية« رضي الله عنهما، وذلك حين يقولون لنا وهم يسوقون العولمة: اخلعوا أوطانكم لتنتموا إلي ما هو »مواطن عالمي« فنستجيب لهم في بلَهْ، وإذا بهم يقولون »هيه وضحكنا عليكم واحتفظنا نحن بأوطاننا وشوفينيتنا أسيادا لكم، لأنكم أصبحتم بلا معالم، بلا وطن« مشروع الانسان القادم سوف تفرزه ثورة المعلومات التواصلية عبر التقنيات الأحدث، حيث يتكون الآن عبر العالم وعي انساني مشترك يكاد ينجح في تجاوز الوصايا الاعلامية والسلطوية المركزية الجاثمة المعارف المغلقة.
❊ ما تقييمك لحالتي الجذب من هذين الطرفين: طرف يشحن الناس بالفن الدرامي وثرثرة الفضائيات، وطرف يبذل المستحيل لشحنهم روحيا ودينيا؟
❊❊ إن كنت تقصد دور الإعلام فيهما- وما يصلني مصادفة من الجانبين هو تسطيح واستعجال، فلا الفن الدرامي يحرك الوعي للنقلة المرجوّه، ولا الشحن الروحي الجاري يضيف إلي حركية المعرفة الإيمانية، بل إن ما يصلني هو التسكين والتلقين والوصاية الفوقية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.