استعادت الدولة المصرية عافيتها وبدأت القاهرة تعود كملتقى للتعامل مع مشكلات وأزمات المنطقة، عادت القاهرة كما كانت دائما قِبلة للدبلوماسيين العرب والأجانب، فأمس كانت القاهرة محور لقاءات واجتماعات واتصالات مكثفة لحل المعضلة الليبية، وتمكين النظام الليبى الجديد من السيطرة على الأوضاع فى البلاد، وبسط سيادة الدولة الليبية على أراضيها، وطرد المسلحين القادمين من شتى بقاع الأرض. استضافت القاهرة اجتماع دول الجوار الليبى وطرحت مبادرة لجمع السلاح من كل الفصائل الموجودة على الأرض الليبية. فى نفس الوقت واصلت القاهرة اتصالاتها الدبلوماسية من أجل التوصل إلى تهدئة بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية، مدتها شهر، تجرى خلاله مفاوضات مكثفة للتوصل إلى اتفاقات محددة حول القضايا العالقة. ومصر ليست ببعيدة عما يجرى فى سوريا والعراق، حيث تعمل بكل قوة من أجل تمكين الدولة فى البلدين العربيين الكبيرين من السيطرة على أراضيهما ومواجهة الجماعات التكفيرية والمنشقة عن تنظيم القاعدة. يجرى كل ذلك، بينما يواصل فلول جماعة الإخوان اعتداءاتها على المصريين بشكل عشوائى، فالجماعة وبعد أن فشلت فى تجربة الحكم فشلا ذريعا وأطاح بها الشعب المصرى، باتت تتعامل مع المصريين كأعداء، فالجماعة تحمِّل المصريين ككل مسؤولية إسقاطها من السلطة وإفشال مشروعها فى الحكم. حاولت الجماعة فى بداية تجربة السياسة الاستعمارية البريطانية «فَرِّق تَسُدْ» من خلال توجيه الاتهام إلى الأقباط بالوقوف ضد مشروع الجماعة، ركزت على ذلك بقوة فى محاولة لدغدغة مشاعر عامة المسلمين المصريين، وهو الأمر الذى فشلت فيه فشلا ذريعا، فالشعب المصرى لم يتعاطَ مع رواية الجماعة الفاسدة، بل رد بتوحيد الصف وساند مؤسسات الدولة المصرية حتى تمت الإطاحة بحكم المرشد والجماعة. هنا بدأت الجماعة تحارب الشعب، بدأت فى استخدام العنف العشوائى الذى يستهدف مواطنين غير محددى الهوية، بدأت الجماعة فى وضع قنابل بدائية الصنع فى مناطق حيوية ومرافق للدولة لقتل أكبر عدد من المصريين، بدأت تنفذ سياسة الانتقام من المصريين على المشاع، من قبيل سكب الزيوت على الطرق وفى مطالع ومنازل الكبارى بهدف إيقاع حوادث بين السيارات. تجسَّد مشروع الجماعة الجديد وهو الانتقام من المصريين فى ذكرى فض اعتصامى رابعة العدوية والنهضة، فقد خرجت مسيرات فى مناطق مختلفة على أطراف القاهرة وفى عدد من المدن، تستخدم العنف، وتلقى مولوتوفا، وتطلق الرصاص بشكل عشوائى، وظهر مخطط الجماعة لمعاقبة المصريين عبر محاولة إظلام الدولة من خلال استهداف أبراج الضغط العالى «تم تفجير نحو 270 برجا» وحركت الجماعة خلاياها المعششة فى وزارة الكهرباء من أجل قطع التيار بشكل متكرر عن مناطق محددة. ترافق كل ذلك مع توجيه الجماعات التكفيرية والمنشقة عن تنظيم القاعدة لتهديد مصر والمصريين عبر إطلاق تصريحات ودس بيانات تقول إن عناصر هذه التنظيمات قد وصلت إلى مصر، وإنها بصدد تكرار المشاهد العراقية والسورية على الأراضى المصرية، وظهر ما سمى نفسه تنظيم «كتائب حلوان» وغير ذلك من التصرفات الصبيانية، التى رد عليها الرئيس السيسى بالقول سنسحق أى جماعة منهم. وسط هذه الأجواء هناك من سرب أخبارا تقول إن جهودا تجرى لإبرام مصالحة بين الدولة والجماعة، واتخذوا من حكم الإفراج عن ثلاثة من قيادات الجماعة بكفالة مؤشرا على ذلك، وهو ما أثار حالة من الغضب فى الشارع المصرى رد عليه الرئيس السيسى سريعا بالقول إن صاحب القرار هو الشعب لا الحكومة، وهو تصريح جاء فى توقيته المناسب، فالشعب المصرى لن يسامح من يتحدث عن مصالحة مع جماعة إرهابية حاربت مصر والمصريين، وتحرض ضد البلد ليلَ نهار، فالجماعة ضد الشعب والشعب قادر على التصدى للجماعة ورفاقها، ولا مكان للحديث عن مصالحة، ومن يتحدث عن ذلك سيخسر التأييد الشعبى، فنحن أمام جماعة جزء من تنظيم دولى يقدم مصالح التنظيم على مصالح الدول والأوطان، ولم تتمكن من وطن إلا وشاركت فى تدميره، فهل هناك من يتحدث عن مصالحة بعد كل ذلك؟ ثمة إدراكان نقيضان للدين: أولهما «رائق» يجعل منه جسرا حاضنا لبنى الإنسان، إذ يسهم فى تأسيس المثل العليا للضمير البشرى كالعدالة والخير والتعاطف مع الآخرين، وهكذا يصير الإيمان حالة روحانية وجسرا وجوديا يربط عالم الشهادة بعالم الغيب، يدفع بالروح الإنسانية إلى تجاوز نفسها والتعالى على ضعفها، عبر ذلك الشعور بالتواصل مع المقدس بما يكفله من طمأنينة للنفس، وتساميا على الغرائز كالجشع والأنانية والحقد «المدنس»، وتناغما مع المبادئ الأساسية للوجود، على نحو يزيد من اليقين الإنسانى بالحضور الإلهى فى العالم، وفى العناية الإلهية بالمصير الإنسانى على الأرض. أما ثانيهما فإدراك «زائف» يجعل من الدين نصلا فى يد الشيطان، إذ يثير الأحقاد ويذكى الصراعات عندما يتسم بطابع عنصرى، أو يفشل المؤمنين به فى تفهم منطقه الخاص، وتجسيد مثله العليا. وهنا يصير الإيمان نوعا من النفاق يفسد اجتماعنا البشرى، إذ يصبح استثمارا سياسيا، طقسا دون اعتقاد، ومظهرا دون جوهر، حيث يتعرف «مدعى التدين» على نفسه كنقيض ضرورى للآخر، فى سياق نفيه والتنكر له إلى درجة استباحة وجوده، وربما الاستمتاع بالرقص على أشلائه، وهنا لا يبقى مسلما حنيفا، بل هو الجهادى والقاعدى والداعشى وكذلك الإخوانى فى طبعته الأخيرة. فى الدين «الجسر» يمثل الإيمان وسيلة مثلى لإنماء العوالم الداخلية للإنسان، وفى قلبها الحب كملكة نتعرف بها على أنفسنا ونتعاطف من خلالها مع الآخرين، ولذا كان الحب جوهر جميع الأديان حتى غير السماوى منها، وجماع الفلسفات عدا العنصرية فيها، فالقيمة الأخلاقية للحب أنه يدفعنا إلى التعامل مع الآخرين كذوات إنسانية حية وليس مجرد موضوعات أو موجودات أو أشياء. أما فى الدين النصل، فثمة تناقض حتمى مع باقى عوالم الإنسان الداخلية، التى هى منبع أمله وألمه، فرحه وحزنه، وغيرها من مشاعر تؤكد إنسانيته. ففى هذا النمط الزائف من التدين لا معنى للحب إلا إذا كان موجها نحو الله وحده، وعبر أشكال من التزمت تفضى إلى كراهية الآخرين، والقسوة عليهم، رغم أنه لا حب لله حقيقة إلا بحب الناس، فحبنا لله لا يضيف إلى الله شيئا، لأنه جل شأنه غنى عنا، يسمو على وعينا وإرادتنا، ولا معنى لحبنا له حقا إلا إذا مس هذا الحب جل مخلوقاته. فى سياق هذا الفهم وحده، حيث الدين نصل والتدين زائف، يمكن فهم كيف يكره المسلم إلى هذه الدرجة، وأن يعذب على هذا النحو، من ينتمون مثله إلى الوطن ذاته أو العقيدة نفسها؟ إنه فقر فى الحب، ينبع من عجز فى الإيمان، وهو قصور فى روحانية الإيمان يتغذى على ضمور فى ملكة الحب، فالحب والإيمان وجهان لعملة واحدة، إذ عندما يوجه الناس حبهم إلى ربهم يكون إيمانا حارا، وعندما يؤمن الناس بقيمة الإنسان الذى جعله الله خليفة له، يستحيل إيمانهم هياما وارفا، واحتراما جارفا. ومن ثم فمن لا يعرف معنى الحب لا يدرك جوهر الإيمان ولا معنى الأوطان، تلك هى الحقيقة التى لا يدركها كل أرباب الدين السياسى والتدين العنيف الذين جعلوا من حياة بنى دينهم وجلدتهم جهنم أرضية، وأحالوا حياتهم إلى كآبة لا نهائية، أخذت تزحف على كل أرض عربية!