يفترض أن يكون الدين الصحيح, قرينا للثورة الحقيقية, تجمع بينهما الصداقة لا العداء, فالدين الصحيح هو وحي الله الهادي للإنسان, والثورة الحقيقية هي فعل الإنسان الحر المستهدي بالله. وهنا يفترض أن يكون المؤمنون جدا هم الثائرين أكثر علي الظلم والفساد فيما يكون الثائرون حقا حريصين جدا علي الفضائل الأخلاقية والدينية, فالثوار هم مؤمنون إيجابيون, فيما المؤمنون ثوار عاقلون. غير أن التاريخ قد وشي أحيانا بالعكس, إذ نادرا ما كان المؤمنون ثوارا فاعلين في الواقع, حتي وصف الدين ب( المحافظة والرجعية) أو كان الثوار مؤمنين حريصين علي الفضائل, حتي وصفت الثورة ب( الفوضوية والدموية), وكأن الثورة نقيض للدين, والحرية عدو للإيمان, وتلك مفارقة تحتاج إلي تفسير. إن الخصوم الحقيقيين للثورة في نطاق الدين, ليسوا هم المؤمنين حقا, بل هم أتباع المؤسسة الدينية, حيث يكمن ويعيش الدين الرسمي, الذي خرج من فلك الأرواح وانطوي داخل بيروقراطيات الكهانة( البطريركية), وهؤلاء ليسوا خصوما للثوار فقط وللثورة فحسب, بل وللمؤمنين حقا, الموصولين بالله صدقا, وخصوم كذلك للإيمان نفسه, الذي لا يعدو أن يكون جسرا باطنا إلي الله, يذكي الفضيلة, ويربي الضمير, ويعلم الناس الحب, حب البشر باعتبارهم بشرا, شركاء في عهد الاستخلاف الممنوح من الله لبني الإنسان, والموقع بمداد الرحمة, والعدل, وليس لأنهم من هذا الدين أو تلك الطائفة أو ذاك العرق. وأما الخصوم الحقيقيون للدين في نطاق الثورة, فليسوا هم الثائرين الأحرار بل أولئك السادة الظالمون, الهادفون إلي حفظ تراتبيتهم في سلم القهر والهيمنة, النازعون من ثم إلي صد كل دين خلاق, وكل فكر جديد فعال يتفجر أملا لا يرومونه, ويتدفق عدلا لا يطيقونه. تدفع الثورة بحركة التاريخ إلي الأمام, إذ توحي للأمة الثائرة بإمكان تجاوز أوضاعها العادية المألوفة وتزيد من قدرتها علي الإمساك بمصيرها, وتولد لديها أحيانا رؤي طوباوية للتاريخ تشعر معها بأنها تتصرف حسب خطته, وأنها الأكثر فهما لمنطقه, والسير من ثم, باعتبارها وكيلة له, نحو تغيير العالم من حولها بدءا بالخارج القريب. وهكذا فإن نجاح الثورة, يرتبط بقدرتها علي تمثل ما في الدين من قدرة علي إلهام الضمير الفردي, وتكتيل الإرادة الجمعية لقطاعات واسعة من البشر, علي النحو الذي يكفل لها أن تتحقق في التاريخ. ولذا فإن المجتمع العاجز عن التدين, غالبا ما يكون عاجزا عن الثورة; فالمجتمع القادر علي تنمية مشاعر التضامن والتضحية علي قاعدة الشعور بالمصير المشترك, تلك التي تظهر خصوصا في حالات الطوارئ, إنما يعتبر في( حالة دينية) تشبه تلك الطقوس التي تجمع بين المؤمنين وتشعرهم بالصداقة والأخوة في الله, فمشاعر الأخوة والتضامن والعدالة هي مشاعر دينية/ إيمانية في جوهرها, ولكنها أخذت طابعا ثوريا/ دنيويا بقصد تحقيق العدالة والجنة علي هذه الأرض. وفي المقابل ثمة مشابهة( سلبية) تجمع بين الدين والثورة, تتعلق بصيرورة الفساد والتدهور, إما بسبب عجزهما عن التحقق في التاريخ أو بفعل هذا التحقق نفسه. فكلاهما, الدين والثورة, يولد في مخاض من الألم والمعاناة, ويدوم بدوام النضال والجهاد حتي يتحقق في التاريخ, فإذا ما تحقق يبدأ التدهور في التسرب إليه إما بفعل الرفاهية والترف أو الجمود والتطرف. يعادي الدين الثورة التحررية ويتحول إلي أداة لقمع الإنسان بفعل التدين الزائف حينما يفشل المؤمنون به في تفهم منطقه الذاتي, وتجسيد عبقريته الخاصة, فيفرضون باسمه نوعا من الوصاية علي عقل الإنسان, أو يدعون حقا مقدسا في التسلط علي إرادته. أو عندما تتدهور أنماط التدين بفعل متغيرات العصور وذبول الروحانية المتوهجة. وتعادي الثورة الدين الصحيح عندما يتحكم بها أولئك القاهرون, الهادفون إلي حفظ تراتبيتهم في سلم الهيمنة, فالثورة قد تجهض, أو تزيف أهدافها, أو تسرق من أهلها, لمصلحة مسارات نقيضة, وعند ذلك لابد من أن تبرر حركة سيرها, ولأنها لا تجد تلك المبررات في الدين الصحيح, فلابد وأن تلفظه, وأن تبحث لنفسها عن حليف في التدين الزائف الذي ربما كان طائفيا أو متطرفا أو رجعيا, علي منوال ذلك الذي جسده الفنان الراحل عبد العظيم عبد الحق في أحد أبرز أفلام السينما المصرية( الزوجة الثانية) عندما طالب الفنان الراحل أيضا شكري سرحان بأن يطلق امرأته النجمة الراحلة كذلك سعاد حسني كي تتزوج من عمدة القرية الفنان الراحل( صلاح منصور), رمز الاستبداد, قائلا له: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم. هكذا يفسد التدين, ليجعل الدين نقيضا لكل تقدم علمي وتحرر سياسي, ويقترب به من الشكل الذي رسمه له النقد الوضعي, خصوصا الماركسي باعتباره( أفيون الشعوب), فيصير هدفا لحركات التغيير الكبري الهادفة إلي تعديل مسارات التاريخ. فماذا إذن عن العلاقة بين الدين الإسلامي والثورة المصرية؟. لقد عبر المصريون قبل ثلاث سنوات من اليوم عن أسمي القيم التحررية من إفك نظام قديم قمع الحرية باسم الاستقرار, فانتهي إلي نوع من الاستبداد( المدني). وبسقوطه نمت الأحلام في دولة العدل والحرية, قبل أن تقوم طيور الظلام الإخوانية بخطفها وإغراقها في دوامات استبداد جديد هو أقسي أنواع الاستبداد إذ يدعي القداسة, ويرفع سيف الله. ولذا كان منطقيا أن يقع الصدام في الثلاثين من يونيو, ليس بين الإسلام والثورة, ولكن بين( الوطنية المصرية) و(الكهانة السياسية) ممثلة في جماعة حاولت أن تنزل بسقف الإسلام إلي مستوي التنظيم, ولذا فإن ثورة المصريين لم تكن علي الله, بل باسم الله, تحريرا للألوهية من المتألهين, وانتصارا لفضيلة الحرية علي الكهنوتية. ولكن إذ كانت الرجعية لا تنبت فقط من الدين بفعل فساد التدين, بل أيضا من السياسة بفعل غريزة التسلط, فإن الثورة المصرية لن تستحق اسمها ما لم تقتلع الرجعية من مصدريها. وإذا كان من غير المرغوب أن نري ثانية طيور الظلام من أرباب التدين الزائف, فليس مرغوبا كذلك أن نسمع نعيق البوم, من متعهدي الدولة الأمنية الذين لا يستطيعون العيش سوي في كهفها, وتقديم القرابين علي مذبح استبدادها, فلهؤلاء وأولئك نقول: كفي. لمزيد من مقالات صلاح سالم