رأي عادل إمام, كفنان حقيقي, أن أعمق ما في الإنسان هي روحه, وأجمل ما في الحياة تلقائيتها فدافع عن كليهما ضد التجهم والقسوة, وإن تسترا بلباس دين أنزل رحمة للعالمين قبل أن يحيله المتعصبون سوطا لجلد الآخرين, إنه ذلك الصراع الأزلي بين إدراكين نقيضين للإيمان: أولهمارائق يري الدين حالة روحانية وجسرا وجوديا يربط عالم الشهادة بعالم الغيب, يدفع بالروح الإنسانية إلي تجاوز نفسها والتعالي علي ضعفها عبر ذلك الشعور العميق بالتواصل مع المقدس وما يكفله من طمأنينة للنفس, وتساميا علي الغرائز, وتناغما مع المباديء الأساسية للوجود, علي نحو يزيد من اليقين الإنساني في الحضور الإلهي في العالم, وفي العناية الإلهية بالمصير الإنساني علي الأرض, وهنا يصير الدين جسرا حاضنا لبني الإنسان, مؤسسا المثل العليا للضمير البشري كالحق والحب والخير والعدالة. وثانيهما ( زائف) يأخذ من الدين مظهره دون جوهره, يراه استثمارا سياسيا لا رقيا أخلاقيا,إذ يتعرف مدعي التدين علي نفسه كنقيض ضروري للآخر, في سياق نفيه والتنكر له إلي درجة استباحة وجوده, وربما الاستمتاع بالرقص علي أشلائه, وهنا يصير الدين نصلا في يد الشيطان, يثير الأحقاد ويذكي الصراعات, يثير الناس, ويفجر الأوطان. في الدين (الجسر) يصير الإيمان وسيلة مثلي لإنماء العوالم الداخلية للإنسان, وفي قلبها الحب كملكة ينفتح من خلالها علي الآخرين, يتعرف عليهم ويتعاطف معهم.والفن كملكة يتمكن بها من التعرف علي نفسه والوجود من حوله, بتذوق المعاني الأعمق في سيرنا البشري الطويل, فالفنون علي تعدد أشكالها, تعكس قدرة مبدعها علي رصد وتكثيف المعاني التي توصلنا إليها في ثقافاتنا المختلفة بتأثير تجاربنا الخاصة أو المشتركة, تلك التي تنبع من قلب تجربتنا علي الأرض, أو تلهمنا إياها معتقداتنا السماوية المقدسة, ففي كلا المصدرين ثمة مثل تجمعنا, وفضائل تلهمنا, ومعان نهائية نجمع عليها, يصوغها الفن في لوحات تشكيلية ومقطوعات موسيقية, وكتل نحتية لا تخلب أبصارنا وتشجي آذاننا فقط, بل تضعنا دوما وبشكل كثيف أمام حقيقتنا الإنسانية في سياق جمالي غير وعظي, يطلق أعمق تخيلاتنا. وهكذا يتشارك الدين والفن في صوغ إنسان قادر علي الانفكاك من وعاء الجسد بكل غرائزه, والتسامي إلي فضاء الروح بكل ممكناته, حيث يتعانق الجميل والجليل, تجاوزا للتناقض الظاهري بينهما.
أما في الدين (النصل), فيصير التناقض حتميا مع باقي عوالم الإنسان الداخلية, أو الجوانية, التي هي منبع أمله وألمه, فرحه وحزنه, قلقه وتوقه. ففي هذا النمط الزائف من التدين لا معني للحب إلا إذا كان موجها نحو الله وحده, وعبر أشكال من التزمت تفضي إلي كراهية الآخرين, والقسوة عليهم, رغم أنه لا حب حقيقي لله إلا بحب خلق الله, لأنه جل شأنه غني عنا, يسمو علي وعينا وإرادتنا, ولا معني لحبنا له حقا إلا إذا مس هذا الحب مخلوقاته. ولا معني كذلك للفن, الذي يصير لدي المتدين الزائف علامة علي الإنحلال, وقرينة علي الدنيوية, وربما وصمة تشي بالوثنية, إذ يعبر عن عوالم وينتج معاني غير موجودة في الكتاب المقدس الذي لا يفهم المتدين الزائف سوي نصه, فيما يعجز عن بلوغ روحه, ولا يدرك معني رسالة الاستخلاف الإلهي للإنسان المضمنة في ثناياه, وهي رسالة تدعو الإنسان إلي خلق معانيه الصغري التي تلهمه وتوجه حركته وتغذي أشواقه, مادامت لا تصطدم بالغاية الأساسية للوجود, تلك التي يوحي بها الله إلينا ويبثها في ضمائرنا, ويجازينا فقط إذا ما انحرفنا عنها, ولكنه يؤجرنا مرتين فيما لو سعينا سعيا ناجحا في اكتشافها ومعايشتها بأرواحنا, ومدها إلي داخل عوالمنا عبر أساليب ومن خلال أدوات تستجلي واقعنا, يأتي الفن في قلبها, ليجسدها ويضيف إليها. كما يؤجرنا, جل شأنه, مرة واحدة علي الأقل فيما لو قطعنا هذا الطريق فأخطأنا القصد, لأن السعي ضرورة حتمية تقتضيها رسالتنا علي الأرض, بينما النجاح قدر جميل نرجوه يكافيء سعينا, ويلبي توقنا إلي السماء.
الدين إذن ليس مقدسا إلا إذا كان جوهره رائقا لا زائفا, والفن ليس دوما مدنسا إلا إذا كان مضمونه تافها لا رساليا, بينما يتعانق الدين الرائق, والفن النبيل معا في صوغ إنسانية الإنسان, ويتكاملان دوما في تغذية نزوعه إلي التسامي والترقي والتحرر. ولا يعدو المشروع الفني لعادل إمام, والذي نسج منواله طوال نصف قرن, أن يكون دفاعا عن التدين السمح حيث يكون الدين جسرا, ولا يمثل الحكم الصادر ضده سوي هجمة شرسة يقودها التدين المتعصب, الذي يحيل الدين نصلا. جوهر اتهام الفنان الكبير هو ازدراء الأديان في أعماله الكبري, غير أن ما يحاسب عليه حقا ليس ازدراء الأديان, بل تعرية الإرهاب وفضح منطق التطرف الكامن خلفه.. ليس ازدراء الإسلام بل ازدراء المتأسلمين الذين وضعوه في كهف تعصبهم وجهلهم, ليس ازدراء الأخلاق الإسلامية بل تفكيك أقنعة المتاجرين بأخلاقية شكلية متعجرفة وقاسية تتصور أن المسلم الحق لابد أن يتعامل مع الآخرين كما كان المسلمون الأوائل يتعاملون مع عمرو بن هشام (أبي جهل) أو عبد العزي بن عبد المطلب (أبي لهب) من كفار مكة وليس مع شركاء في الدين والوطن والإنسانية. انتقد إمام الجميع,مانحا السينما المصرية بعض أفضل أعمالها, مرسخا دورا تنويريا مفترضا لها, مع فنانين كبار كثر يصعب حصرهم توالوا عبر نحو القرن, ليجعلوا من الفن المصري نموذجا مميزا ضمن النماذج الأساسية في العالم, ربما كان, مع النموذج الهندي, الأبرز خارج العالم الغربي الذي تقع هوليود في مركز القلب منه, ولعل هذا هو سر الوصف الأثير للقاهرة ب(هوليود الشرق). في عمله الشهير (طيور الظلام) اعتبر النظام (الفاسد) شريكا للإرهاب في الصراع علي جسد مصر, وفي (الإرهاب والكباب) اتهم العقلية السلطوية المنغلقة بدور رئيسي في تغذية الإرهاب من خلال تطيرها وارتباكها. وفي عمله الأثير (المنسي) قدم نقدا عميقا لتواطؤ النخبة, وسلبية الجماهير, معبرا عن الأمل الضروري في يقظتهم, أما فيلمه (النوم في العسل) فبلغ الذروة في فضح العلاقة بين الإستبداد والقهر, تلك الثنائية الشريرة التي تقود في الأخير إلي العجز النفسي والجسدي.
والمفارقة هنا أن النظام السابق الذي كثيرا ما انتقده الزعيم لم يفكر قط في محاكمته, وقد كان قادرا علي ذلك, فيما يواجه الرجل تحدي المحاكمة, وخطر السجن بعد ثورة تكتل المصريون خلفها طلبا للحرية, فإذا بمن ركبوا موجتها يحاصرون أحد أكثر المبدعين الذين أسسوا لوعيها, وكشفوا عن آليات اشتعال الفساد والإستبداد التي أدت إليها, ما يمثل نزوعا عبثيا لا يمكن تفسيره إلا بأن النظام السابق, علي رغم فساده واستبداده, كان ينتمي إلي عالمنا, وإن كان انتماء مزيفا. أما تلك القوة المظلمة التي تطالب اليوم بسجن فنان مصر الكبير, وتعطيل مسيرة فنها العريق, فلا تنتمي إلي عالمنا حقا, ولا تنوي الإنتماء إليه ولو زيفا, ولذا فإن معركتها خاسرة, ليس فقط أمام الروح العميقة للثورة, بل لأنها تضاد طبيعة الأشياء وتعاكس حركة التاريخ.