حكى بونابرت فى مذكرات المنفى، نص المواجهة التى جرت بينه وبين الشيخ الشرقاوى بعد أن طلب فتوى تطالب المسلمين بطاعته والقسم على ذلك، حيث قال له الشرقاوى: بما أنك تطلب رعاية الرسول الذى قلت إنه يحبك وزارك فى المنام، وتريد العرب والمسلمين تحت رايتك، فاعتنق الإسلام، ساعتها سيكون تحت قيادتك مئة ألف مسلم يمكنك أن تفتح بهم الشرق كله وتسترد وطن الرسول بكل أمجاده. قال نابليون: إن أهم ما يعطل اعتناقه الإسلام هو وجيشه: الختان وشرب الخمر، فهما من العادات الأساسية وتقاليد الحياة اليومية ويصعب التخلُّص منهما. وأفتى بعض المشايخ بأن الختان نافلة وليس ضرورة، أما الخمر فقد يشربها المسلم، لكنه يكون عاصيًا ولا يدخل الجنة. فتساءل نابليون فى حوارية بيزنطية لاستكمال «لعبة المناورات»: لماذا يعتنق الإنسان دينًا يفضى به إلى الجحيم لمجرد أنه يمارس عادة لا يستطيع الإقلاع عنها؟ وحسب ما نشره كريستوفر هيرولد فى كتابه عن الحملة، طلب الشيوخ وقتًا لتدبُّر الأمر، وفى أثناء سفر بونابرت مع قواته لفتح الشام عاد الشيوخ ليصدروا فتوى تبيح للفرنسيين شرب الخمر مع ضمان دخول الجنة! (سبحان الله على أحوال بلد يضمن شيوخه للناس دخول الجنة!). لكن كيف يحدث ذلك؟ بسيطة، لقد اشترط الشيوخ التكفير عن هذا الإثم بالتصدُّق بخُمس دخلهم بدلًا من العُشر كالمعتاد! هكذا كانت لعبة «الشيوخ والجنرال» تمضى كما يتمنّى الطرفان طالما لم تتأثّر أهداف كل منهما، حيث يصل التنازل والتواطؤ إلى أقصاه ما دام فى حدود الغرف المغلقة، ولم يخرج إلى العلن، وهذا يفسّر جانبًا من غضبة الشيخ الشرقاوى عندما أراد نابليون أن يلبسه وشاح العلم الفرنسى! كان الاحتفال بعيد تأسيس الجمهورية الفرنسية الأولى (21 سبتمبر)، قد جاء قريبًا جدًّا من الاحتفال بمولد الرسول، عليه الصلاة والسلام، ووصل الاندماج بين نابليون وكبار الشيوخ إلى درجة الاطمئنان، كأنهم جند فى حملته، لكن الأمور لم تمضِ وفق حسابات التواطؤ بين الكبار، فالواقع كان يرتب لمفاجآت مختلفة، أبطالها من البسطاء، وخطباء المساجد الصغيرة، وشباب الأحياء الشعبية، الذين قرروا الثورة ضد الاحتلال، وحسب الشهادات التى أوردها المؤرخ الفرنسى أندريه ريمون، تبخَّرت أحلام الانسجام بين نابليون والمشايخ على نيران الثورة التى اشتعلت فى نفوس العامة. ثورة وشعب؟ هذه ظاهرة جديدة تنهى عصر المماليك تمامًا، لكن ما الذى حدث؟ وكيف قامت الثورة رغم احتواء نابليون لكبار الشيوخ والأعيان؟ يصعب الاكتفاء بسبب واحد مباشر لاشتعال الثورات، فهناك مؤرخون يركزون على العامل الاقتصادى ويؤكدون أن السبب الرئيسى هو فرض الضرائب والمغارم الفادحة، ومصادرة الكثير من الأملاك والمبانى، وتفتيش البيوت واقتحام الدكاكين بحثًا عن الأموال، وركز مؤرخون آخرون على العنف والظروف الأمنية، حيث اشتدت وطأة الفرنسيين على الشعب، وسعوا بكل الأساليب لإخضاع القاهرة، وهدموا أبواب الحارات، لكى يحكموا قبضتهم على سائر الأحياء، وأسرفوا فى قتل الأهالى، وفرضوا على المدينة أجواء الإرهاب، بينما تحدَّث آخرون عن عوامل الوطنية، وروح المقاومة، وربطوا بينها وبين الاتجاه الموالى للحكم العثمانلى فى إسطنبول، ووجد هؤلاء فرصة للتحريض ضد الفرنسيين بعد أن أعدموا مجموعة من المصريين، على رأسهم محمد كريم حاكم الإسكندرية (وهذه قصة سنعود إليها لاحقًا بالتفصيل). ما يعنينا الآن أن ثورة الغضب اندلعت، فى الوقت الذى كان فيه نابليون يترنَّح كل مساء فى حلقات الذكر مع بعض المشايخ، الذين وقعوا ضحية لأوهامهم وصدَّقوا أكاذيب المستعمر! خرج الناس فى محيط الأزهر بعد ثلاثة أشهر فقط من احتلال العاصمة، ووقع الزلزال الذى قوّض كل الترتيبات التى انطلت على النخبة من الشيوخ والوجهاء، ولم تنطلِ على الشعب (الذى لم يحاوره أحد، ولم يشاوره أحد، ولم يقبل من الإمبراطور ورودًا أو طيلسانات).. انتفض الشعب يوم الأحد 21 أكتوبر 1798م (الموافق 11 جمادى الأولى 1233ه)، وبدّد كل أحلام بونابرت وأوهام النخبة الفاسدة، وهذا تاريخ يجب أن نحتفل به، ونتذكّره جيدًا، إنه تاريخ ثورة القاهرة الأولى. وفى الغد.. عن الثورة نحكى، وأنا أحب حكايات الثورات.