فى 23 يوليو «يا للمصادفات!» سقطت القاهرة فى يد نابليون بعد انسحاب القوات المدافعة، وعبر الفرنسيون النيل إلى العاصمة المهزومة فانتشر فى أرجائها الاضطراب والذعر، وفر الكثيرون فى مختلف الأنحاء، وساد السلب والنهب فى مشهد نقلته الفضائيات تفصيلا بعد ثلاثة قرون فى أثناء سقوط بغداد واختفاء الأمراء والمشايخ صبيحة 9 أبريل 2003، وفى مشاهد مصغرة لسقوط أنظمة الربيع العربى واستباحة مقر الحزب الوطنى، وقصور القذافى وبن على. هكذا بدأت الملحمة التى أعادت تشكيل مصر والمنطقة كلها، وأقتطف لكم هذه السطور البديعة من وصف الجبرتى (مؤرخ مفترق الطرق): «كانت هذه السنة هى أول سِنِىّ الملاحم العظيمة والحوادث الجسيمة، والوقائع النازلة والنوازل الهائلة، وتضاعُف الشرور وترادُف الأمور، وتوالِى المِحَن واختلال الزمن، وانعكاس المطبوع وانقلاب الموضوع، وتتابُع الأهوال واختلاف الأحوال، وفساد التدبير وحصول التدمير، وعموم الخراب وتواتر الأسباب (وما كان ربك مهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون)». وفى يوم الثلاثاء 25 يوليو استقر بونابرت فى منزل الألفى بالأزبكية، وعلى الرغم من نشوة الانتصار السريع فى شبراخيت والأهرامات، فإنه كان يشعر أن انتصاره غير حاسم، وقد ذكر ذلك بالتفصيل فى كتابه «حملات مصر وسوريا» الذى أملاه على زميله الجنرال برنار فى منفيهما فى «سانت هيلانة»، كان يدرك أن الموقف ليس مستقرا تماما، فهو يعرف جيدا أن رضوخ الشعب المصرى لقوة الجيش، ليس هزيمة نهائية، لكنه مجرد رد فعل للصدمة، ونتيجة للذهول الذى أصابهم من توالى الأحداث السريعة، وبعد انتهاء هذا الذهول سيبدؤون مقاومة الكفار الوثنيين (حسب تعبيره)، وبالفعل بعد أيام بدأت لغة المقاومة تتحدث عن الجهاد ضد «الوثنيين»، الذين يلطخ وجودهم المياه المباركة، ويتلو الشيوخ الآيات القرآنية التى تندد بالكفار. وأدرك نابليون أن عليه أن يحتوى المسلمين، ويوقف استمرار تلك الأفكار الدينية وإلا ارتبكت قواته وضاعت انتصاراتها، وحسب رأيه «كان الجيش الفرنسى أضعف من أن يخوض حربا دينية»، وأدرك أن عليه أن يأخذ بنصيحة «فولنى»، فإما أن يغادر البلاد، وإما أن يسلم بالأفكار الدينية حتى لا يعتبَر من أعداء الإسلام، واختار السلطان الكبير -كما كان يسميه المصريون- حيلة الإقناع، وكسب ود الشيوخ والعلماء والأشراف، من أجل أن يحصل منهم على تفسير لآيات من القرآن تخدم مصلحة جيشه وأهدافه الاستعمارية. يقول مؤرخ مفترق الطرق عبد الرحمن الجبرتى: طلب صارى عسكر بونابرتة المشايخ فلما استقروا عنده نهض من المجلس ورجع وبيده طيلسانات ملوَّنة بثلاثة ألوان (أبيض وأحمر وكحلى)، فوضع منها واحدا على كتف الشيخ الشرقاوى، فرمى به على الأرض، واستعفى، وتغيّر مزاجه، وانتقع لونه، واحتد طبعه. فقال الترجمان: يا مشايخ أنتم صرتم أحبابا لصارى عسكر وهو يقصد تعظيمكم وتشريفكم بزيه وعلامته، فإن تميزتم بذلك عظّمتكم العساكر والناس، وصارت لكم منزلة فى قلوبهم. فقالوا له: لكن قدْرنا يضيع عند الله وعند إخواننا من المسلمين. اندهش بونابرتة، ونقل عنه الترجمان أن الشيخ الشرقاوى «لا يصلح للرياسة»، فلاطفه بقية الشيوخ، واعتذروا عن تصرف الشرقاوى، فقال لهم: إن لم يكن ذلك فلا بد أن تضعوا الجوكار فى صدوركم (علامة الوردة بألوان العلم الفرنسى). فقالوا: أمهلونا حتى نتروى فى ذلك واتفقوا على اثنى عشر يوما. وبينما هم منصرفون حضر الشيخ السادات، فلما استقر له الجلوس بشّ له صارى عسكر، وضاحكه ولاطفه فى القول (الذى يعربه الترجمان) وأهدى إليه خاتم الألماس، وكلفه بالحضور عنده فى الغد، وأحضر له «جوكار» أوثقه بفراجته (وضعه فى عباءته) فسكت الشيخ السادات وسايره، فطلب منه بونابرت أن يقنع الناس بوضع الوردة باعتبارها إشارة طاعة ومحبة للفرنسيين، فوافق الشيخ السادات. وخرج المنادى يدعو الناس بناء على أوامر فئة من كبار الشيوخ بوضع «شارة الوردة» كنوع من الأمان وقبول التعاون مع الفرنسيين! وغدًا نكمل.