الروائى المصرى الكبير محمد ناجى، أثرَى المكتبة العربية بعديد من الروايات المهمة، منها: الأفندى، والعايقة بنت الزين، ولحن الصباح، ومقامات عربية، وليلة سفر، وخافية قمر، وغيرها.. ويعد «ناجى» من أهم كتاب السرد المعاصرين، حيث تمتاز أعماله بخصوصية عوالمها التى لا تشبه أى كتابات أخرى، ويأتى اهتمامه باللغة واضحا فى أعماله، والتى تعد ملمحا أساسيا ولافتا، حيث تمتاز بالعذوبة والشعرية والرشاقة، كما يختار أبطال رواياته من الطبقات المتوسطة والمهمشة والمطحونة، راصدا أحلامهم وطموحاتهم، وصراعهم القدرى مع الحياة وآلامها، فى محاولة للنجاة والانتصار. «التحرير» يسعدها أن تنشر رواية محمد ناجى الأخيرة «قيس ونيللى»، وتقدمها للقراء على مدى عشر حلقات. أحبّ قيس نيللى من أول نظرة، نعم من أول نظرة، ولن نجادل فى ذلك. لقد باركت شمس الشتاء المشهد بابتسامة رضى ساطعة، وطوّقت الفتى بهالة نورانية دافئة وهو يختلس نظرته الأولى. هى كانت تتأهب للنزول من التاكسى أمام البنك الأهلى، وهو نظر خلسة، طويلا لكن خلسة. صادفت نظرته الأولى انكشاف البياض المحظور فوق حافة الجورب. الأغلب أنها لم تلاحظ، عقدت الأستك عقدتين، ثم ألقت نظرة سريعة على المرآة الداخلية ونزلت. حسمت نظرته الأولى الجانبية كل شئ، لكن النظرات الخلفية أعطته فرصة أكبر ليستقر الإحساس الحلو فى عينيه نظرة بعد نظرة؛ الخطى والقوام ولفَّة الساق، والفراء الأسود الذى يطوّق العنق ويلتف حول أساور التايور الأزرق. كان يمكن فى تلك اللحظة رؤية كِيوبيد الطفل فى أحد تجلياته النادرة فوق أرض مصر؛ حملته سحابة من بلاد اليونان أو ربما من إيطاليا، وسوّحته الريح طويلا فوق سواحل إفريقيا، لكنه استطاع بإرادة إله أن يصل فى الوقت المناسب. وحين اختلس العاشق نظرته الأولى؛ كان ابن فينوس حاضرا بقوسه وسهامه فوق البنك الأهلى فى شارع شريف. الأرجح؛ لم يلاحظ أحد ذلك، لا يمكن لأحد أن يشغل نفسه بالنظر إلى السماء فى تلك اللحظة من الصباح، كانت العيون تزحف عبر الرصيفين باحثة عن موطئ قدم بين عجلات السيارات، وعلى عتبات البنك عيون تترقب تحرك الأبواب المغلقة مع موعد بدء العمل. عموما كانت ومضة التجلى مباغتة ومراوغة، أدى الطفل الأبدى دوره ببراعة من قام بذلك مرات لا تحصى، وتنتظره مرات أخرى بلا عدد. رمى سهمه ثم تثاءب بملل، وتخفّى بمكر إله متمددا فى سحابة ملونة بغبار الإسمنت وعوادم السيارات. بدا فى تلاشيه وكأنه شاخ فى طفولته واصفرّت أسنانه، وحين حاول أن يستعيد ابتسامته؛ انفتح فكاه مثل ذئب، وتبدد فى الريح. رفرف قلب الفتى خلف الفتاة على سلّم البنك، ولم يغب اللون الأزرق عن عينيه وهو يتلكأ فى الممر الدائرى. ظل ممسكا طرف اللون بالتفاتات مراوغة بين خطوة وأخرى. لاحظ تلك الغمضة الباسمة فى عينيها وهى تدير وجهها فى كسل بعيدا عن نظراته، ولاحظ أيضا أنها تستدير نحوه مرة أخرى فى انتظار الالتفاتة التالية. واضح أن السهم نفذ. حين اطمأن إلى طول الطابور الذى وقفت فيه؛ أسرع إلى شباك التحويلات الخارجية. سؤال سريع، وجواب خيّب ظنّه. رجع قبل أن تتحرك من مكانها. تلكأ بين الطوابير طويلا، وتوقف أحيانا ليسأل عن أشياء لا تعنيه؛ مترقبا ظهور الكمَّ الأزرق فى زحام الطابور. لم يكن يعرف ما يريد بالضبط، لكن ربما كان يحس أن شيئا ما سيحدث، شيئ مقدّر سلفا. كان كل شىء مقدرا فعلا منذ فتحت الملائكة عيونها فى الصباح؛ رتّبت كل التفاصيل على عجل، وأعدّت بعض المفاجآت الصغيرة لتسهيل الأحداث، وربما كانت عثرة الفتاة على سلم البنك من تلك التساهيل المقدرة سلفا. صحيح أن اللقطة مكررة، لكنها الأسرع للذاكرة، ثم إنها مجرّبة كثيرا فى المسلسلات والأفلام. وكما يحدث دائما؛ دفعتها العثرة باتجاه حضن البذلة الخضراء، وأحدثت شهقة المفاجأة نقلة فى إيقاع الصوت: سلامتك يا آنسة.. سورى.. سار كل شىء بعد ذلك على النحو المألوف، فيما عدا بعض التعديلات الطفيفة التى تناسب الحال: اسمى قيس. وأنا نيللى. ■ ■ ■ كدت تفقد حقيبتك وأنت تسندنى، لو رآها حرامى لخطفها. ليس فيها شىء ينفعه؛ إخطار التحويل لم يصل، والحقيبة فارغة. تخيَّلت المساحة الخالية فى الحقيبة الرقمية، وحاولت أن تخمن حجم التحويل المرتقب. تنفست خيالاتها، وابتسمت: حقيبتى أيضا فارغة؛ أودعت كل ما كان فيها بالبنك. *** يبدو أن البنك ضايقك، هل تفكر فى تغييره. أحسن من غيره، وأقرب لى. لكنه عطّل وصول فلوسك كما ذكرت. التأخير من هناك. سأتصل بهم الليلة لأعرف متى أرسلوا الإخطار بالضبط. هل حدث ذلك معك من قبل؟ كثيرا، اعتدت ذلك. كم مرة ؟ تقريبا؛ كل مرة. ■ ■ ■ كان كل شىء غامضا. *** اسمى نيللى. ذاكرتى قوية؛ الآنسة نيللى، لكنى لا أعرف عنك أكثر من ذلك. ما زلت طالبة فى الجامعة، لكنى لا أهتم بالدراسة كثيرا، الشغل أهم. وماذا تعملين؟ أعمال حرة. فى رأسى مليون فكرة، لكنى لم استقر على واحدة، لن أضع فلوسى إلا فى مشروع مضمون. حاول أن يخمن لكن المسألة كانت غامضة ومربكة. بلع تخميناته، وواصل الكلام: والشهادة؟ لا أطمع فى وظيفة. لكن الشهادة مهمة فى مجتمعنا، لابد أن تحصلى عليها. يا رب. ■ ■ ■ اسمك غريب ونادر؛ هل أنت عربي؟ صعيدى، وأنت؟ من الفيوم. تقيمين فى بيت الطالبات؟ ولماذا بيت الطالبات؟.. أنا أسكن على النيل، فى شارع البحر الأعظم، الأبراج العالية. وحدك؟ بل مع بيكو. بيكو؟! أطبق شفتيه، لكن فقاعة ضحك انفجرت فى منخاره. فهمَت السبب فضحكَت معه، وشرحت له: هذا اسم الدلع؛ هو فنان ويحب الدلع، اسمه الحقيقى بكرى نافع. الاسم ليس غريبا على أذنى، أسمعه، أو ربما أقرأه أحيانا. الفنان بكرى نافع؛ مشهور جدا. سكت قيس، فخمنت نيللى السؤال المعلق خلف شفتيه. تنفّست حذرها، ووصلت الكلام: هل أخبرتك أنه عمى، نعم عمى. هو رسام، وأنا فنانة مثله، غاوية تمثيل. *** لفَّت فى الكلام، وعادت للنقطة الغامضة: أين سيارتك؟ مشوارى لا يحتاج سيارة؛ خطوتان. وحدّد الاتجاه بإشارة ملتوية: هنا، فى باب اللوق. مكتبك؟ بل سكنى. ومكتبك؟ وسط البلد أيضا؛ شارع شامبليون، قرب دار القضاء. أغمضت رموشها وفتحتها: هل أنت رجل أعمال؟ رجل أثقال. كان جوابه ملتبسا. ■ ■ ■ فى النهاية؛ علينا أن نعترف بأن التايور الأزرق والبذلة الخضراء تألقا فى العرض القصير بين شارع شريف وميدان التحرير. كانا جملة موسيقية بين قوسين وسط فوضى الشارع وضوضائه، وقد مالت البنت بوجهها قليلا صوب العاشق دون أن تفقد حذرها فى مراقبة موضع خطاها، وتقوس جسم الفتى قليلا فى حنو خجول، وردفاه يتخبطان فى إيقاع يناسب الحديث العاطفى الرصين. عرف رقم الموبايل ووعدها: سأكلّمك فى الليل. ولماذا الليل؟ أغلب عملى واتصالاتى فى الليل. اكتب الرقم حتى لا تنساه. أحفظ الأرقام من أول مرة؛ موهبة تفيدنى كثيرا، وهى كل عملى الآن. كان مشهد الوداع مؤثرا عند مدخل الميدان؛ رفرف الكمّ الأخضر أمام شباك التاكسى: باى باى، سأكلمك فى الليل. واشرأب طرف الكم ّالأزرق على حافة النافذة: كلِّمنى فى أى وقت، باى. صفَّر أمين المرور، وفتحت الإشارة الطريق للعربات. تداخلت ألوان السيارات وأصوات الأبواق فى زحمة الميدان وهى تسابق المطر الوشيك. كان المَلاك يسوق جماله المحمّلة بخزائن المطر فى سماء المدينة، وهى تجتر رعودها القديمة؛ تلك التى أطلقتها من قبل مرات لا تحصى، وتنتظرها مرات أخرى بلا عدد. *** حين عادت نيللى كان بكرى نائما، تُطبق روائح الألوان على صدره، ويتعثر شخير فى عتمة حلقه المفتوح. من الواضح أنه لم يضف لمسة واحدة للوحة، لا تزال الجماجم طافية فوق بياض القماش، جماجم لها ملامح البيوت والمكاتب والعربات، مشبوكة ببقايا هياكل عظمية وعفن أحشاء. لا تزال اللمسة الحمراء على طرف الفرشاة، منذ يومين وهو لا يعرف أين يضعها، جفَّ الأحمر وتغضَّن مثل جرح. ألقت نظرة سريعة وانسحبت إلى غرفتها. بدّلت ملابسها، ثم مسحت آثار المطر عن التايور، وعلّقته بعناية على شماعة خلف الباب. على التايور الأزرق ماركة فرنسية مشهورة، لكن يبدو أنها مزوَّرة. زمان؛ اشترته ممثلة صاعدة من محل بالغ التواضع فى منتجع «كازلى كول» التركى. محل بلا واجهات زجاجية ولا عتبات من رخام. باب خشبى، وشماعات ورفوف عليها ملابس الصيف، وسلال مكدسة ببقايا موسم الشتاء. غرز البائع ذو الشوارب إصبعه فى العلامة المشهورة، وأبلغها السعر بحسم تركى من أحفاد السلاطين، ثم تشاغل عن مساومتها بمسح آثار زكام نهاية الموسم، وحين همَّت بالانصراف برَمَ شاربه وقبل نصف السعر بحسم أيضا. أبدت تشكّكها فى صحّة الماركة، لكن صديقها المُخرج أخبرها أن ذلك لا يقلق عاقلا. كان رأيه أن التقليد سمة العصر، وأن كل شىء مغشوش من الماركات التجارية إلى الشعارات السياسية. شرح لها بهذه المناسبة أنه حتى الليبرالية الموجودة فى الأسواق الآن مزيفة؛ الماركة فرنسية والصناعة تركية. كانت الممثلة بصحبة صديقها فى فندق المنتجع الصغير، وسط ينابيع المياه وأحواض الطين السحرى الذى يعالج آلام الروماتيزم والأعصاب. زادت آلامه وتقلّصات يده بعد فشل فيلمه الأخير، فهرب بصديقته إلى ذلك المكان. كان ساخطا على النقاد والمنتجين، وأيضا على الجمهور الذى يتعامل مع الفن بذوق متفرّجى السيرك. لم يكن راضيا حتى عن أفلامه. حلمه الأخير أن يبدأ مسيرة مختلفة فى المسرح. يكتب النصّ بنفسه، ويدرب صديقته الممثلة على الدور الذى يفصّله لها. حدّثها طويلا، وهما يغوصان فى أحواض الوحل عن آرائه فى الحياة والفن. بالتأكيد نسيت الآن كل ما قال عن أن الحياة نفسها قد تكون نسخة مقلدة، وأن الفن هو المحاولة الوحيدة الجادة لاستعادة الوهج الأول، الوجود الأصيل. لا يمكن أن تتذكر ذلك الآن؛ وهى تتشبث بسماعة التليفون فى ثرثرة طويلة مع إحدى صاحباتها، والمكيف ينفث أزيزه فى الجدران. كان مثاليا تعسا، يطارد ذلك الوهج المستحيل؛ الوهج البكر، وكانت هى بالنسبة له محاولة من هذا القبيل. يصعد معها سلم الرغبة ببطء وحذر، لكن الدرج الجليدى يذوب تحت وقع خطواته، وينهار به آخر الليل على السرير. يبسط راحته ويطويها تحت الوسادة، وهو يرقب فجر «كازلى كول» الملون من فرْجة الشبّاك، ويحاول أن يشرح لها كيف أن حضور الممثل على خشبة المسرح أكثر أصالة من حضوره الشخصى فى الحياة. هى لم تفهم أفكاره أبدا، خاصة عندما كان يخلط الأشياء ببعضها ويفلسف أتفه الأمور، لكنها ظلت تعتبره أستاذها وأحبّت نبْرة الإخلاص فى كلامه. كانت آراؤه الغامضة وصبواته المستحيلة تشحنها برؤى وانفعالات، وتضعها فى حالة فنية مبهمة. بعد رحلة «كازلى كول» سار من فشل إلى فشل. اختفى بعد سقوط تجربته على خشبة المسرح. اختفى فجأة، وقِيل أنه يعمل فى محطة تجارية للأفلام التسجيلية فى إيطاليا. هى تخبّطت بعده فى أدوار صغيرة فى السينما وعلى المسرح ثم اعتزلت، تزوجت واعتزلت، أصبحت نسخة مكررة يوميا. ربما تفاجئها بروقها الحميمة أحيانا بين مرايا الكوافير، فينبض وجهها بالدهشة القديمة، الدهشة الأولى، وتلهث نظراتها بين المرايا المتقابلة.