بقدر ماتثير نتائج الانتخابات البرلمانية الأوروبية التي أجريت في شهر مايو المنصرم قضايا عديدة فإنها تؤكد على أهمية التشريح الثقافي لاشكالية الهجرة وهموم المهاجرين . فنتائج هذه الانتخابات تؤشر بوضوح إلى تصاعد منتظر في العداء الأوروبي للمهاجرين الأجانب وخاصة هؤلاء الذين يسمون بالمهاجرين غير الشرعيين فيما باتت هذه الظاهرة موضع اهتمام ثقافي في الغرب وتتوالى الاصدارات والكتب الجديدة التي تتناولها من جوانب متعددة. وعقب الانتخابات البرلمانية الأوروبية يقول الكاتب حنيف قريشي لصحيفة الجارديان البريطانية إن المهاجر اليوم بات دالا على معاني الاستلاب والاغتراب الداخلي ومسخ الحقائق الجوهرية. وقريشي المنحدر من أب باكستاني وأم انجليزية يضع قضايا الهجرة والمهاجرين والعلاقات العرقية في قلب أعماله الروائية التي يكتبها بالانجليزية أو مايسميه "بالأدب المزعج". فمؤلف قصة "الألبوم الأسود" وصاحب "بوذا منطقة الضواحي" و"غسالتي الجميلة" يرى أن المهاجر في عالم اليوم لايهجر وطنه فحسب وإنما يتخلى أيضا عن ذاته ولايجد من يسمعه فيما يتحول لمجرد رقم في كتلة صماء في احصاءات رسمية وهو إن صح وصفه بأنه "شخص غير ميت" فلا يصح في المقابل اعتباره "من الأحياء". ورغم ذلك تتصاعد ظاهرة لاجئي القوارب من العالم العربي لشطآن أوروبا والغرب بصورة لافتة وكأنها تشير ضمنا لخلل ما فيما عرف بالربيع العربي والمؤكد أن هذا الربيع لم يثمر بعد في الاقتصاد لأسباب متعددة كما أنه على وجه اليقين لم ينجح بعد في وضع حد "لشراع المآساة" في مياه المتوسط. ولاجدال أن الانتاج الثقافي المصري-العربي مدعو لمواكبة جديد المتغيرات في ظاهرة طالبي اللجوء بالغرب ومهاجري القوارب لتحقيق المزيد من التراكم المعرفي-الابداعي حول هذه الظاهرة التي أسهمت فيها منطقتنا بالكثير بكل الأسي!. وعلى سبيل المثال إلى أين تتجه ظاهرة الهجرة غير المشروعة في عالم يشهد تغيرات يرى بعض الباحثين أنها تشكل مشهدا عالميا جديدا رباعي الأقطاب أي تقوده الولاياتالمتحدة واوروبا وروسيا والصين فيما ينتظر ان تلحق بالأقطاب الأربعة قريبا دول اخرى مثل الهند والبرازيل. وإذا كانت أوروبا مقصدا رئيسا للمهاجرين غير الشرعيين القادمين من العالم العربي فماذا عن تأثير الانتخابات البرلمانية الأوروبية الأخيرة التي اعتبرها المفكر المصري سمير امين خطوة نحو انهيار الاتحاد الأوروبي؟. اليمين المتطرف وفي هذه الانتخابات حصلت أحزاب اليمين المتطرف التي تتخذ مواقف بالغة العداء حيال المهاجرين من الجنوب والعالم العربي خصوصا كما تناهض الوحدة الأوروبية على نحو 20 بالمائة من أصوات الناخبين ولاشك أن التصويت لليمين المتطرف أمر خطير كما يوضح سمير امين لأن هذه الأحزاب لاتوجه سهام هجومها للمسؤولين عن المشاكل الحقيقية في دولها وإنما تختار عادة الضعفاء أي المهاجرين لتلقي عليهم اللوم!. وفي بريطانيا على سبيل المثال فإن حزب الاستقلال المنتمي لليمين المتطرف والمعادي بشدة للمهاجرين حصل على 23 مقعدا في الانتخابات الأوروبية الأخيرة مع أنه مناهض أيضا لفكرة الاتحاد الأوروبي فيما تظهر الاحصاءات أن هناك ارتفاعا مستمرا في نسبة البريطانيين الذين يتخذون مواقف متحيزة عرقيا. كلها مؤشرات لاتطمئن من يتمنى عالما أكثر تسامحا كما أنها بالتأكيد تؤشر إلى أن أوروبا ستزداد تشددا في قضايا الهجرة وتؤكد على أن النظرة الأوروبية للمهاجرين من خارج القارة كدخلاء ستزداد حدة ليصدق وصف حنيف قريشي للمهاجر بأنه "شخص يتعرض للشيطنة من جانب من تصور أنهم يمكن أن يشكلوا له ملاذا امنا ففقد قصته الحميمة وملامح وجهه وأسباب مناعته". ولم تعد ايطاليا وحدها هي الهدف للموجات البشرية التي تعبر البحر المتوسط من الشاطيء الجنوبي فالأخبار تتواتر حول تصاعد محاولات التسلل لأسبانيا وخاصة عبر سبتة ومليلة وتلك الموجات البشرية تجمع مابين السوريين والفلسطينيين والمصريين والجزائريين والمغاربة ناهيك عن الأفارقة القادمين من دول القارة السمراء جنوب الصحراء فضلا عن محاولات الوصول لبلاد ابعد كثيرا من ايطاليا واسبانيا وفرنسا. وقد يحفز الألم القلم للكتابة عن "مراكب الموت" السابحة في البحر المتوسط نحواوروبا فيما يتوالى الجدل حول الأسباب التي تدفع الشباب الغض للرحيل من الوطن وركوب تلك "التوابيت" في مياه المتوسط. وإذا كان العبور الثقافي للشاطيء الآخر الذي يستقبل موجات بشرية من الجنوب تطلب اللجوء او تبحث عن اي فرص عمل مطلوبا فإن الثقافة الغربية تنتج بالفعل اعمالا جديدة حول تلك الظاهرة حتى في بلاد بعيدة كأستراليا التي وجدت نفسها رغم التنائي في قلب الظاهرة بتداعياتها المثيرة للجدل والغضب. هاهو كتاب يصدر في استراليا بعنوان "بلاد بعيدة للغاية: كتابات حول طالبي اللجوء " تحرير روزي سكوت وتوم كينالي وهذا الكتاب مختارات من قصص قصيرة وقصائد ومقالات وطروحات بل ويضم ايضا ملخصات لكتب اخرى ليكون بمثابة "بيان جماعي" لكوكبة من المبدعين في استراليا حول قضية باتت تهمهم كما تهم العالم كله وهي قضية لاجئي القوارب. وعلى الرغم من أن بعض الحكومات عمدت "لشيطنة" اللاجئين فان 27 كاتبا وشاعرا من بينهم روزي سكوت وتوم كينالي يدافعون في هذا الكتاب عن اولئك اللاجئين الذين يعرفون "بلاجئي القوارب" وكما تفصح مقدمة الكتاب فإن هدفه الرئيس كسر الصمت الذي يخيم في الواقع على هذه القضية رغم كل الصخب الظاهر والجدل العلني دون الوصول لجذور المآساة و"التعامل مع هؤلاء البشر كبشر"!. وعلى حد كلمات جيرالدين بروكس في هذا الكتاب الجديد "كم هو قبيح إخراس الحقيقة..فعندما تصمت الحقيقة تتقدم الأكاذيب لملء الفراغ..وهذا ماحدث ويحدث في قضية لاجئي القوارب"..والحقيقة ليست كما يذهب البعض هي اكثر الكلمات زيفا وإنما يمكن الوصول لها إن توافرت النوايا الحسنة والارادة بغض النظر عن ذريعة أن مانعتبره حقيقة هو مجرد روايات عنها!. أما إن غابت النوايا الحسنة فالكلمات قد تعمد "للشيطنة" وقد تعمد "لمنح القداسة" غير أن الكلمات في هذا الكتاب تكاد تكون "صرخة غاضبة لثلة من المبدعين ازاء المعاملة التي يلقاها هؤلاء الذين قذفت بهم اقدارهم لشطآن بعيدة على أمل بدء حياة جديدة في بلاد غير بلادهم الطاردة". وفي بلد مثل استراليا عرف تاريخيا بأنه "بلد للمهاجرين" اعتبرت الحكومة لاجئي القوارب الذين هبطوا في جزيرة تحمل اسما موحيا هو "جزيرة الكريسماس" بمثابة اشخاص دخلاء يقومون بأعمال غير مشروعة بل انها رأت نزولهم في هذه الجزيرة عملا احتلاليا!. بالطبع الاحتلال يستدعي المقاومة وتطهير الأرض من المحتل وهذا مافعلته السلطات الاسترالية التي قطعت خطوات ابعد عندما اصر سكوت موريسون وزير شؤون الهجرة والرقابة الحدودية على استخدام كلمة أو وصف "اللاشرعيين" بدلا من "طالبي اللجوء"كصفة لهؤلاء الذين يصلون الى شواطيء استراليا بحثا عن ملاذ في هذه القارة الواسعة!. لايهم إن كان هؤلاء البشر قد ارتكبوا جرائم حقيقية أم لا إنما المطلوب اجتثاث ظاهرة لاجئي القوارب بصرف النظر عن أسباب هذه الظاهرة والمآسي التي تغذيها!..وعلى أي حال فهناك من الاستراليين من رفضوا هذه الشيطنة وماتوحي به صفة "اللاشرعي" وماثيره في الأذهان من ظلال الخصومة والبغضاء. غير أن تلك الفئة الرافضة لشيطنة لاجئي القوارب تبقى اقلية في استراليا مقابل أغلبية من المواطنين الذين هم أو آبائهم وأجدادهم في أغلبهم من المهاجرين!..واللافت والايجابي في خضم هذه المآساة أن أغلب الكتاب والأدباء في استراليا هم ضمن تلك الأقلية. وفي سياق التناقضات اللافتة في الموقف الرسمي لبلد مثل استراليا حيال مايسمى بالمهاجرين غير الشرعيين تتحدث القاصة سوي وولف في هذا الكتاب الجديد عن والدها الذي غادر سفينة بريطانية ليدخل استراليا بصورة غير مشروعة فيما كان حريصا بعد اكتساب المواطنة الاسترالية على اخفاء بؤس طفولته وفقر ايام الشباب حتى عن افراد عائلته!..كأنها "الياذة الصمت". وطريف هذا السؤال لاليكس ميلر في كتاب "بلاد بعيدة للغاية" :"لماذا نبخل نحن الذين اعتمدنا على كرم واريحية اصحاب الأرض الأصليين في استراليا ونضن بكرم الاستقبال لبضعة الاف من البشر الذين اضطرتهم الحاجة الماسة لطلب اللجوء في بلادنا"؟!. هل نقول إن العالم بحاجة "لثورة انسانية" تؤدي لتغييرات جذرية في نظرة الانسان لأخيه الانسان؟!..ويبدو ان القضية بحاجة لثقافة جديدة لتغيير العقول ومن ثم تغيير الحياة لكن المشكلة أن البعض مصمم على استخدام كل انواع الحيل والمراوغات لاخفاء الظلم والتفرقة بين البشر. ومن هنا يتساءل الكاتب الاسترالي اليكس ميلر :"ألا نشعر بخيانة الذات والعار كاستراليين وكبشر من هذه المعاملة الفظة وغير الانسانية التي يلقاها اللاجئون من حكومتنا"؟!. أما القاصة آنا فوندر فتقول إن "أوهامها الشخصية تبددت وهي ترى الأسلوب الذي تتعامل به الحكومة مع طالبي اللجوء". الشمال والجنوب ولن يكون من العدل الحديث في هذا السياق عن الشمال الغني وحده ففي الجنوب الكثير من مظالم الأنظمة التي افضت لأقلية تعيش في القصور وأغلبية تعيش في القبور!. إنها "الأجيال المسروقة". العمر سرق والأمل سرق وليس أمامها سوى البحر لتشرب منه أو تغرق فيه حيث "الموت بلا مال ولاجاه"!..هل للتاريخ افواه؟!. جذور مأساة لاجئي القوارب تكمن في الجنوب حيث يتغول الفساد ويتوحش الانحراف ويجهض التطور العادل بفعل فاعل وتنتهك الكرامة الانسانية بالمعنى الواسع للكلمة ومن بينها الحاجة التي تذل أعناق الرجال بحيث يكون الحل هو البحر!.. أي ركوب قوارب رثة وسفن متهالكة بحثا عن الكرامة في جنة الشمال!. لكن أبواب الجنة في الشمال مغلقة غالبا في وجوه هؤلاء البؤساء الذين قد يستدين أغلبهم من أجل ركوب البحر ومكابدة الأهوال على أمل الوصول للفردوس المفقود حيث فرص العمل التي تعني الانعتاق من ذل الفقر وتجدد حلم الحياة!..من المخطيء: الجنوب أم الشمال؟!. هناك من يرى أن كل طرف يتحمل مسؤوليته على ضفتى البحر المتوسط وإن كان كل جانب قد وضع شبكته في بحر الآخر ليصطاد منفعة خاصة دون حل مشاكل هذا "الموت المعلن" فيما تتواتر الأخبار حول عصابات تهريب البشر في الزوارق البائسة صوب جزيرة لامبيدوزا الواقعة جنوبايطاليا حيث اشتهرت هذه الجزيرة الايطالية الصغيرة جراء عدة كوارث لغرق زوارق المهاجرين مما أدى لمصرع المئات في البحر. ولعبة الكلمات مستمرة في مآساة لاجئي القوارب الذين تطلق السلطات الاسترالية على المعتقلين منهم كلمة "الزبائن" وهي كلمة مضللة في هذا السياق المآساوي الحافل بمحاولات تطبيع التعسف والتلاعب بالدلالات لأن هؤلاء المعتقلين او السجناء لايملكون أي خيارات قد تكون متاحة "للزبائن"!. غير أن الكلمات قادرة دوما على الدفاع عن شرفها ورد اعتبارها والنفاذ لجوهر الحقيقة كما هو الحال في كتاب "بلاد بعيدة للغاية" الذي يحوي كتابات لفيلسوف مثل ريموند جايتا ونجوم في القصة الاسترالية مثل كيم سكوت و ديبرا اديلايدي وآنا فوندر وشعراء مثل جوديث رودريجيز واويانج يو. وتقول روزي سكوت إن "الكتاب يبرهنون عبر قوة الكلمات على امكانية طرح أفكار عملية بقدر ماهي رحيمة في مواجهة هذه المآساة الانسانية" والحقيقة أن هذا الكتاب الجديد بالفعل يطرح العديد من الأفكار العملية لحل اشكالية لاجئي القوارب وطالبي اللجوء في البلاد البعيدة لكن بكل الأسف والأسي الأفكار وحدها لاتكفي فهناك حاجة لارادة سياسية هي وحدها القادرة على تحويل الكلمات إلى أفعال. وحسب إعلان رسمي فإن قوات حرس الحدود المصرية نجحت في شهر مايو المنصرم في احباط محاولات تسلل ل 936 شخصا من المهاجرين غير الشرعيين غير أن الظاهرة في مصر ترجع جذورها لمنتصف سبعينيات القرن العشرين مع التغيرات الاجتماعية-الاقتصادية الدرامية وغياب أي مشروع وطنى يشكل الحلم الجامع للمصريين فيما اختزل الانفتاح بصورة مشوهة بقيادة مجموعة من "القطط السمان" التي مارست ابشع انواع الرأسمالية الطفيلية وبفهم طفولي للرأسمالية كما تمارس في بلاد المنشأ!. لم يعد صاحب أي ضمير حي في هذا العالم بمقدوره الصمت عن"عبيد الأزمنة الحديثة في مراكب الظلمات" فيما يمكن القول بحق إنه إذا نجحت الحكومات في تثبيت حكم ديمقراطي رشيد بالعالم العربي "فسيصبح عار الغرق في مياه المتوسط صفحة من الماضي". ثمة حاجة واضحة لتضميد الجراح المصرية والعربية عموما بترياق العدل والحرية ومعالجة المشاكل الملحة من اجل اقامة تكتل عربي فاعل وصياغة حياة جديدة مختلفة عن الحياة التي تحولت فيها عدة دول عربية إلى دول طاردة لشبابها الذين تحولوا لمهاجرين غير شرعيين في أوروبا وغيرها. ثم إن ثقافة العلم مطلوبة بالحاح في كل مجالات الحياة المصرية والعربية وعلى رجال الأعمال هنا استعارة نماذج وانماط ايجابية في الغرب تعبر عن الشعور بالمسؤولية الاجتماعية واقامة مشاريع توفر فرص عمل للشباب بشروط انسانية..الصمت لم يعد ممكنا ولاالاستسلام..حان الوقت لتتوقف زخات عذابات الغربة ورجفة الغريب..حانت اللحظة ليمنح الوطن كل الأبناء خبزا وأمانا.