أ ش أ فيما تستمر "شراع المآساة" و"توابيت الموت" في مياه البحر المتوسط باتت ظاهرة المهاجرين غير الشرعيين موضع اهتمام ثقافي في مصر والغرب وتتوالى الاصدارات والكتب الجديدة التي تتناول هذه الظاهرة المآساوية من جوانب متعددة. وفي هذا الخريف تصاعدت ظاهرة لاجئي القوارب من العالم العربي لشطآن أوروبا والغرب بصورة لافتة وكأنها تشير ضمنا لخلل ما فيما عرف بالربيع العربي , والمؤكد أن هذا الربيع لم يثمر بعد في الاقتصاد لأسباب متعددة كما انه على وجه اليقين لم ينجح بعد في وضع حد "لشراع المآساة" في مياه المتوسط. ولا ريب أن الانتاج الثقافي المصري - العربي مدعو لمواكبة جديد المتغيرات في ظاهرة طالبي اللجوء بالغرب ومهاجري القوارب لتحقيق المزيد من التراكم المعرفي - الإبداعي حول هذه الظاهرة التي أسهمت فيها منطقتنا بالكثير بكل الأسي!. ولم تعد إيطاليا وحدها هي الهدف للموجات البشرية التي تعبر البحر المتوسط من الشاطيء الجنوبي فالأخبار تتواتر حول تصاعد محاولات التسلل لأسبانيا وخاصة عبر سبتة ومليلة وتلك الموجات البشرية تجمع ما بين السوريين والفلسطينيين والمصريين والجزائريين والمغاربة ناهيك عن الأفارقة القادمين من دول القارة السمراء جنوب الصحراء فضلا عن محاولات الوصول لبلاد أبعد كثيرا من إيطاليا وأسبانيا وفرنسا. ولعل الكاتب والروائي عزت القمحاوي من حقق إضافة ثقافية مصرية - عربية يعتد بها في سياق التناول الثقافي لما يسمى بقضية الهجرة غير الشرعية منطلقا من وجيعة شخصية عندما فقد ابن شقيقته الشاب الصغير أثناء محاولته الهجرة لايطاليا "بصورة غير مشروعة" فكان كتاب "العار من الضفتين". إنه الألم الذي قد يحفز القلم للكتابة عن "مراكب الموت" السابحة في البحر المتوسط نحو إيطاليا, فيما تناول عزت القمحاوي بسلاسة وعمق معا الأسباب التي تدفع الشباب الغض للرحيل من الوطن وركوب تلك "التوابيت" في مياه المتوسط. وإذا كان العبور الثقافي للشاطيء الآخر الذي يستقبل موجات بشرية من الجنوب تطلب اللجوء أو تبحث عن أي فرص عمل مطلوبا فان الثقافة الغربية تنتج بالفعل أعمالا جديدة حول تلك الظاهرة حتى في بلاد بعيدة كأستراليا التي وجدت نفسها رغم التنائي في قلب الظاهرة بتداعياتها المثيرة للجدل والغضب. ها هو كتاب جديد يصدر في استراليا بعنوان "بلاد بعيدة للغاية: كتابات حول طالبي اللجوء " تحرير روزي سكوت وتوم كينالي وهذا الكتاب مختارات من قصص قصيرة وقصائد ومقالات وطروحات بل ويضم أيضا ملخصات لكتب أخرى ليكون بمثابة "بيان جماعي" لكوكبة من المبدعين في استراليا حول قضية باتت تهمهم كما تهم العالم كله وهي قضية لاجئي القوارب. وعلى الرغم من أن بعض الحكومات عمدت "لشيطنة" اللاجئين فان 27 كاتبا وشاعرا من بينهم روزي سكوت وتوم كينالي يدافعون في هذا الكتاب عن أولئك اللاجئين الذين يعرفون "بلاجئي القوارب" وكما تفصح مقدمة الكتاب فان هدفه الرئيس كسر الصمت الذي يخيم في الواقع على هذه القضية رغم كل الصخب الظاهر والجدل العلني دون الوصول لجذور المآساة و"التعامل مع هؤلاء البشر كبشر"!. وعلى حد كلمات جيرالدين بروكس في هذا الكتاب الجديد "كم هو قبيح إخراس الحقيقة..فعندما تصمت الحقيقة تتقدم الأكاذيب لملء الفراغ..وهذا ما حدث ويحدث في قضية لاجئي القوارب"..والحقيقة ليست كما يذهب البعض هي اكثر الكلمات زيفا وانما يمكن الوصول لها إن توافرت النوايا الحسنة والارادة بغض النظر عن ذريعة أن مانعتبره حقيقة هو مجرد روايات عنها! أما إن غابت النوايا الحسنة فالكلمات قد تعمد "للشيطنة" وقد تعمد "لمنح القداسة" غير أن الكلمات في هذا الكتاب تكاد تكون "صرخة غاضبة لثلة من المبدعين إزاء المعاملة التي يلقاها هؤلاء الذين قذفت بهم أقدارهم لشطآن بعيدة على أمل بدء حياة جديدة في بلاد غير بلادهم الطاردة". والظاهرة في مصر ترجع جذورها لمنتصف سبعينيات القرن العشرين مع التغيرات الاجتماعية-الاقتصادية الدرامية وغياب أي مشروع وطنى يشكل الحلم الجامع للمصريين فيما اختزل الانفتاح بصورة مشوهة بقيادة مجموعة من "القطط السمان" التي مارست ابشع أنواع الرأسمالية الطفيلية وبفهم طفولي للرأسمالية كما تمارس في بلاد المنشأ! وفي بلد مثل استراليا عرف تاريخيا بأنه "بلد للمهاجرين" اعتبرت الحكومة لاجئي القوارب الذين هبطوا في جزيرة تحمل اسما موحيا هو "جزيرة الكريسماس" بمثابة أشخاص دخلاء يقومون بأعمال غير مشروعة بل إنها رأت نزولهم في هذه الجزيرة عملا احتلاليا!. بالطبع الاحتلال يستدعي المقاومة وتطهير الأرض من المحتل وهذا ما فعلته السلطات الاسترالية التي قطعت خطوات أبعد عندما أصر سكوت موريسون الوزير الجديد لشؤون الهجرة والرقابة الحدودية على استخدام كلمة أو وصف "اللا شرعيين" بدلا من "طالبي اللجوء"كصفة لهؤلاء الذين يصلون الى شواطيء استراليا بحثا عن ملاذ في هذه القارة الواسعة!. لايهم إن كان هؤلاء البشر قد ارتكبوا جرائم حقيقية أم لا إنما المطلوب اجتثاث ظاهرة لاجئي القوارب بصرف النظر عن أسباب هذه الظاهرة والمآسي التي تغذيها!..وعلي أي حال فهناك من الاستراليين من رفضوا هذه الشيطنة وما توحي به صفة "اللا شرعي" وماثره في الأذهان من ظلال الخصومة والبغضاء غير أن تلك الفئة الرافضة لشيطنة لاجئي القوارب تبقى أقلية في استراليا مقابل أغلبية من المواطنين الذين هم أو آبائهم وأجدادهم في اغلبهم من المهاجرين!..واللافت والايجابي في خضم هذه المآساة أن اغلب الكتاب والأدباء في استراليا هم ضمن تلك الأقلية. وفي سياق التناقضات اللافتة في الموقف الرسمي لبلد مثل استراليا حيال ما يسمى بالمهاجرين غير الشرعيين تتحدث القاصة سوي وولف في هذا الكتاب الجديد عن والدها الذي غادر سفينة بريطانية ليدخل استراليا بصورة غير مشروعة فيما كان حريصا بعد اكتساب المواطنة الاسترالية على إخفاء بؤس طفولته وفقر أيام الشباب حتى عن افراد عائلته!..كأنها "الياذة الصمت". وطريف هذا السؤال لاليكس ميلر في كتاب "بلاد بعيدة للغاية" :"لماذا نبخل نحن الذين اعتمدنا على كرم وأريحية أصحاب الأرض الأصليين في استراليا ونضن بكرم الاستقبال لبضعة الاف من البشر الذين اضطرتهم الحاجة الماسة لطلب اللجوء في بلادنا"?!. هل نقول إن العالم بحاجة "لثورة إنسانية" تؤدي لتغييرات جذرية في نظرة الانسان لأخيه الانسان?!..ويبدو ان القضية بحاجة لثقافة جديدة لتغيير العقول ومن ثم تغيير الحياة لكن المشكلة أن البعض مصمم على استخدام كل أنواع الحيل والمراوغات لاخفاء الظلم والتفرقة بين البشر. ومن هنا يتساءل الكاتب الاسترالي اليكس ميلر :"آلا نشعر بخيانة الذات والعار كاستراليين وكبشر من هذه المعاملة الفظة وغير الانسانية التي يلقاها اللاجئون من حكومتنا"?!..اما القاصة آنا فوندر فتقول إن " أوهامها الشخصية تبددت وهي ترى الأسلوب الذي تتعامل به الحكومة مع طالبي اللجوء". ولن يكون من العدل الحديث في هذا السياق عن الشمال الغني وحده ففي الجنوب الكثير من مظالم الأنظمة التي أفضت لأقلية تعيش في القصور واغلبية تعيش في القبور!..انها "الأجيال المسروقة"..العمر سرق والأمل سرق وليس أمامها سوى البحر لتشرب منه أو تغرق فيه حيث "الموت بلا مال ولاجاه"!..هل للتاريخ افواه؟!. جذور مآساة لاجئي القوارب تكمن في الجنوب حيث يتغول الفساد ويتوحش الانحراف ويجهض التطور العادل بفعل فاعل وتنتهك الكرامة الانسانية بالمعنى الواسع للكلمة ومن بينها الحاجة التي تذل أعناق الرجال بحيث يكون الحل هو البحر!.. أي ركوب قوارب قوارب رثة وسفن متهالكة بحثا عن الكرامة في جنة الشمال!. لكن أبواب الجنة في الشمال مغلقة غالبا في وجوه هؤلاء البؤساء الذين قد يستدين اغلبهم من اجل ركوب البحر ومكابدة الأهوال على أمل الوصول للفردوس المفقود حيث فرص العمل التي تعني الانعتاق من ذل الفقر وتجدد حلم الحياة!..من المخطيء: الجنوب ام الشمال?!. يرى الكاتب المصري عزت القمحاوي أن كل طرف يتحمل مسؤوليته وكتابه "العار من الضفتين" يعرض للحكومات على ضفتى البحر المتوسط وكل منها قد وضع شبكته في بحر الآخر ليصطاد منفعة خاصة دون حل مشاكل هذا "الموت المعلن" . ومشاكل هذا الموت المعلن تقترن بمصطلحات ترددت في القاموس السياسي الاسرائيلي بشأن الفلسطينيين مثل "الترانسفير" او "الترحيل الجماعي" وتستخدمها دول في الغرب الآن عند التعامل مع مهاجري القوارب كما انه لا يجوز تجاهل أولئك الآفارقة الذين كانوا يحتلون حيزا ثابتا في صفحات الحوادث بالصحف عندما يضبط بعضهم أثناء محاولات التسلل من سيناء للعمل في اسرائيل..وماذا عن الصحراء الغربية؟!. ها هو خبر تلتقطه العين في صحف امس الأول "الخميس" يتحدث عن "العثور على تسعة مصريين ضمن المهاجرين غير الشرعيين الستين الذين فقدوا في الصحراء الليبية كما تم العثور على جثتين لشابين من محافظة المانيا". وسواء في مصر أو في ليبيا تتواتر الأخبار حول عصابات تهريب البشر في الزوارق البائسة صوب جزيرة لامبيدوزا الواقعة جنوبإيطاليا فيما اشتهرت هذه الجزيرة الايطالية الصغيرة هذا العام جراء عدة كوارث لغرق زوارق المهاجرين مما أدى لمصرع المئات في البحر. ولعبة الكلمات مستمرة في مآساة لاجئي القوارب الذين تطلق السلطات الاسترالية على المعتقلين منهم كلمة "الزبائن" وهي كلمة مضللة في هذا السياق المآساوي الحافل بمحاولات تطبيع التعسف والتلاعب بالدلالات لأن هؤلاء المعتقلين او السجناء لا يملكون اي خيارات قد تكون متاحة "للزبائن"!. غير أن الكلمات قادرة دوما على الدفاع عن شرفها ورد اعتبارها والنفاذ لجوهر الحقيقة كما هو الحال في كتاب "بلاد بعيدة للغاية" الذي يحوي كتابات لفيلسوف مثل ريموند جايتا ونجوم في القصة الاسترالية مثل كيم سكوت و ديبرا اديلايدي وآنا فوندر وشعراء مثل جوديث رودريجيز واويانج يو. وتقول روزي سكوت إن "الكتاب يبرهنون عبر قوة الكلمات على إمكانية طرح أفكار عملية بقدر ماهي رحيمة في مواجهة هذه المآساة الانسانية"..والحقيقة ان هذا الكتاب الجديد بالفعل يطرح العديد من الأفكار العملية لحل إشكالية لاجئي القوارب وطالبي اللجوء في البلاد البعيدة لكن بكل الأسف والأسي الأفكار وحدها لا تكفي فهناك حاجة لارادة سياسية هي وحدها القادرة على تحويل الكلمات الى أفعال. ولعل قوة هذا الكتاب تكمن في انه يضم طيفا واسعا من أجناس الكتابة وأنواع السرد كما انه يتميز بأسلوب المعالجة بالعمق حيث التوغل عند جذور الظاهرة في الماضي والصعود للحاضر ومحاولة التحليق للمستقبل..مازال الأدب على وجه الخصوص بمقدوره استحضار لحظات مفعمة بالحياة والأهم إنها مفعمة بالحقائق رغم ما قد يبدو في الكتابات الأدبية من خيال!. وها هي السينما البريطانية تتألق الآن بفيلم جديد عنوانه "بل" وهو من اخراج أما اسانتي ويدور حول جريمة وقعت بالفعل في القرن الثامن عشر وتحديدا عام 1769 عندما قام قبطان سفينة باغراق عشرات العبيد عمدا للحصول على تعويضات باعتبار أن ما حدث كارثة.. والكارثة هنا ليست كارثة العبيد وانما كارثة تاجر العبيد ومن ثم فهو يطالب بالتعويض!. لكن قصة العبودية لم تنته بعد ومن هنا حق للروائي المصري عزت القمحاوي ان يستخدم عنوانا فرعيا دالا لكتابه "العار من الضفتين" وهو: "عبيد الأزمنة الحديثة في مراكب الظلمات" فيما يؤكد على انه اذا نجحت الثورات في تثبيت حكم ديمقراطي بالعالم العربي "فسيصبح عار الغرق في مياه المتوسط صفحة من الماضي". انه "الابداع المتأمل" سواء بالكلمة او بالصورة يجابه اصحاب الحيل القذرة والضمائر الميتة والسياسات الفظة التي لاقلب لها وفائض القسوة المفرطة ولو اختار الكاتب او المبدع الصمت وقبل الدعوة للتواطؤ فبأي كلمات يوصف ؟!