فرنسا غزت أمريكا أكثر من مرة، وليس كل الغزو إثمًا، والأمريكيون أغلبهم من مهاويس، من الكروسون حتى برج إيفل. هذه المرة جُنت أمريكا وطار عقلها بكتاب أو من كتاب اقتحمها فى عقر دارها وبأدوات يمينها الاقتصادى، لخبطة لها الغزل -كما يقولون. فى الخامس من سبتمبر 2.13، صدر عن دار النشر الفرنسية الشهيرة «دار سوى» كتاب فى الاقتصاد لعالم شاب يدعى توماس بيكتى Thomas piketty، ضمن سلسلة تحمل اسم «كتب العالم الجديد». الكتاب الواقع فى 976 صفحة كان يحمل عنوان «رأس المال فى القرن الواحد والعشرين»، وكان بمثابة الإعلان عن ثورة فى الفكر الاقتصادى مفجرها شاب لم يتجاوز عمره الثالثة والأربعين. توماس بيكتى (تذكروا هذا الاسم جيدًا) القادم من مدرسة اليمين الاقتصادى، يكشف وبنفس الأدوات العلمية لهذا اليمين، أن الجداول الرياضية وحدها لا تصنع اقتصادًا سليمًا، ولن تضمن سلامة المجتمعات، وأن تمركز الثروات فى حوزة الواحد فى المئة (يتحدث عن أوروبا والولاياتالمتحدة)، ينذر باختناق قادم ومدمر. توماس -مرة أخرى تذكروا هذا الاسم جيدًا- قد يغير العالم، إن لم يكن قد بدأ بالفعل فى تغييره. ترجمت جامعة هارفارد كتابه إلى الإنجليزية ليصدر فى مارس الماضى محدثًا ثورة عبر عنها بول كروجمان الحائز على نوبل فى الاقتصاد ببساطة بقوله «إننا لم يعد بإمكاننا أن نرى أو نتحدث عن سوء توزيع الدخل والثروة مثلما كنا نفعل، قبل كتاب بيكتى، فهناك ما قبل وما بعد بيكتى». ما أحدثه كتاب رأس المال فى القرن الوحد والعشرين يمكن وصفه ب«تسونامى إعلامى -نصف مليون نسخة فى زمن قياسى- ونقطة تحول بعدها». انهالت الدعوات من شتى الأنحاء من الصين إلى الهند وأوربا وقبل كل ذلك من المراكز البحثية فى الولاياتالمتحدة، التى احتلت هى وأوروبا مساحة البحث فى العمل الذى عد ثورة، واختار بيكتى أن يبدأ من الجامعات الأمريكية وبالذات الأشهر من كولومبيا إلى كاليفورنيا وآلام آى تى و.. و، كتاب «رأس المال فى القرن الواحد والعشرين يتحدث عن تنامى الفروق والفجوة الواسعة أو الافتقار إلى عدالة توزيع الثروة بشكل يدحض أو يهز ما تعارفت عليه النظم الرأسمالية أو مما يقال عنه نظرية «التساقط» التى تترك لآلية الأسواق مهمة توزيع الثروة، معتمدة على أن المكاسب الرأسمالية بتناميها وفق حرية الأسواق سوف تتساقط ثمارها بالزمن لتعم الخيرات على الجميع، يعنى مسألة وقت، وسيبوا الأسواق حرة. ماذا فعل الشاب الفرنسى أو الاقتصادى الذى يتنبؤون بأن كتابه هو نقطة تحول؟ عكف لخمسة عشر عامًا على دراسة الهوة أو سوء توزيع الثروة على مدى القرنين الأخيرين ليلاحظ أن الهوة الفاصلة التى قد بدأت فى التقلص أعقاب الحرب العالمية، قد تقلصت عند الخمسينيات أو ضاقت بمقدار النصف، ثم تغيرت وتيرتها لتعاود الاتساع ولدرجة خطيرة منذ ثمانينيات القرن العشرين، وفى العقود الثلاثة الأخيرة، قفزت قفزة الموت، طبعًا موت الأغلبية أو موت الاقتصاد، وعلى سبيل المثال فإن الواحد فى المئة من الأمريكان يملكون الآن اثنين وعشرين فى المئة من الناتج القومى، هذا فى عام 2012، بينما كان نصيبهم لا يزيد على ثمانية فى المئة فى ثمانينيات القرن العشرين، وفى السياق نفسه، ومقارنة بين الثمانينيات وعام 2012 نجد أن الواحد فى المئة من السكان فى إنجلترا قد ارتفع نصيبها من سنة إلى أربعة عشر فى المئة، وفى أيرلندا من ستة إلى إحدى عشر، وألمانيا من عشرة إلى ثلاثة عشر، والبرتغال من خمسة إلى عشرة، وحتى الدول الإسكندنافية والتى تتميز أو كانت تتميز بتطبيقات اقتصادية خاصة، فإن حجم ما يملكه طبقة الواحد فى المئة فيها قد زاد بنسبة سبعين فى المئة، والاستثناء الوحيد كان فرنسا التى لم يزد حجم ما يملكه الواحد فى المئة فيها ما بين عام 80 وعام 2012 عن واحد فى المئة من سبعة إلى ثمانية فى المئة. ماذا يعنى ذلك؟ ببساطة يعنى أننا نعود إلى الوراء وبشدة، نعود إلى عصر تمركز الثروة فى أسر بعينها، وأنه غير صحيح علميًّا أن الأسواق تصحح نفسها، وأن أدوات البحث والاستطلاع المستخدمة فى الاستقصاء، والدراسة حول توزيع الثروة لم تكن تطرق إلى الفئة الأكثر ثراء، مكتفية بدراسة المقارنة بين مَن يطلق عليهم المقتدرين والعمال، وأن الحيتان من المديرين التنفيذيين ورجال البنوك كانوا دومًا بعيدًا عند الكلام على الهوة الفاصلة وسوء توزيع الناتج القومى. وما أتى به توماس بيكتى وهز اقتصادى أمريكا أنه أضاف أدوات إحصائية، مكنته مما جعل بول كروجمان الذى كتب مقالة طويلة فى عدد شهر مايو من «نيويورك رفيو أو بوكس» يقول: إننا لم نعد بإمكاننا أن نتكلم عن مشكلة سوء توزيع الدخل القومى والهوة الفاصلة، كما كان الأمر قبل كتاب بيكتى الذى قد يكون الكتاب الأهم لعشر سنوات «أو ثورة بيكتى»، وبالمناسبة فما من جريدة أو مجلة أمريكية من الأشهر إلا ودخلت فى مناظرة وسجال، ولما قالوا عنه إنه ماركس الجديد قال لهم إنه لم يقرأ رأس المال الماركسى وإنه قادم من قناعة بالملكية الخاصة. توماس بيكتى نشأ فى ضاحية clichy الباريسية، وهو ابن لأسرة عمالية، ودرس بالإيكولنورمال سوبريور وحصل على الدكتوراه من لندن سكول فى عمر 22 سنة، وكان موضوعها «إعادة توزيع الثروة» وعمل فى التدريس فى «الإم آى تى» ثم عاد إلى فرنسا باحثًا ومسؤولًا بحثيًّا، وواحدًا من مئة عالم، كما رشحته ألورين إفارز منذ سبع سنوات، ولكنه اليوم قد يغير العالم بالاقتصاد إلى ما يصبو إلى العدل.