• قلق غربي من الاكتفاء بمحاسبة المدنيين الفاسدين مع الحفاظ على صلاحيات المؤسسة العسكرية. • استبعاد قبول الجيش بإصلاحات دستورية يؤدي الى تحويل النظام الرئاسي الى نظام برلماني. • لماذا هدد عمر سليمان باضطرار الشعب للاختيار بين النظام الراهن وحصول انقلاب عسكري؟ • المرحلة المقبلة: لاعبان كبيران: طنطاوي وسليمان • ثورة "25 يناير" دكت آخر قلاع انقلاب "23 يوليو" استسلم الرئيس المصري حسني مبارك لمطالب المحتجين، فغادر القاهرة وتنحى من الحكم... حدث ذلك بعد ساعات قليلة من إلقائه خطاباً بث مباشرة في أنحاء العالم ورفض فيه التخلي عن السلطة. في وقت سابق من ذلك اليوم، أصدر المجلس الأعلى للقوات المسلحة بياناً- سمي بالبيان رقم واحد- ذكر فيه أن الجيش سيضمن حصول مرحلة انتقالية سلمية بعد تنحي مبارك من السلطة. عملياً، يبدو أن السلطة انتقلت إلى يد القوات المسلحة، وقد حصل ذلك بعد أن انتقل الجيش من موقع المتفرج إلى قوة مؤثرة في الاحتجاجات التي اكتسحت مصر. منذ أن انطلقت الحركة الاحتجاجية في 25 كانون الثاني/يناير، قام الجيش، الذي تحلى بصبر غير محدود، بتعميق سيطرته الميدانية وتوسيعها على المنطقة المحيطة بميدان التحرير عبر إقامة حواجز وأسلاك شائكة في المنطقة. كانت بصمة الجيش المتنامية الخطوة التالية التي تمهد لحصول عملية انقلاب بوتيرة بطيئة، وهو ما يتمثل في استعادة الجيش سيطرته المباشرة على الميدان، وقد كان هذا الأمر المبدأ الأساسي الذي وضع في العام 1952. خلفيات تهديد عمر سليمان ربما يشعر الغرب بالقلق من أن تؤدي الأزمة إلى إرساء الديمقراطية بوتيرة أسرع مما ينبغي بالنسبة إلى مصر، ما يعزز موقع "الإخوان المسلمين"، لكن يكمن الخوف الرئيس في أن يقدم النظام حصراً على محاسبة المدنيين الفاسدين مع الحفاظ على صلاحيات المؤسسة العسكرية دونما سواها. في 9 شباط/فبراير، عندما قام الجنرال عمر سليمان، نائب الرئيس الذي عينه مبارك حديثاً وسلمه الصلاحيات الرئاسية، بالتهديد بأن الشعب المصري سيضطر إلى الاختيار بين النظام الراهن وحصول انقلاب عسكري، فهو عزز بذلك فكرة أن البلاد وقعت رهينة الأحداث. يشكل النظام السياسي المصري في عهد مبارك النتاج المباشر للجمهورية التي تأسست غداة الانقلاب العسكري في عام 1952. سمّي هذا الانقلاب "ثورة 23 يوليو"، ما أدى حينها إلى وصول جمال عبد الناصر والضباط الأحرار إلى السلطة. قام عبدالناصر وهؤلاء الضباط بإلغاء النظام البرلماني المحدود في مصر وطردوا جيلاً كاملاً من الشخصيات السياسية والقضائية المدنية من الحياة العامة. وهكذا أسسوا جمهوريتهم الخاصة التي تديرها أساساً الشخصيات العسكرية الموالية، لكن لم تنجح تجربتهم الوحيدة في تشكيل حكومة تكنوقراطية تسمح للخبراء القانونيين المصريين بصياغة وثيقة أساسية جديدة تنص على مبادئ الحكم، فقد تضمنت مسودة الخبراء أحكاماً تدعو إلى قيام برلمان قوي ورئاسة محدودة الصلاحيات، لكن اعتبر الضباط أن تلك الأحكام كانت ليبرالية أكثر من اللزوم، فقاموا حرفياً برمي المسودة في سلة المهملات، ثم بدأوا مجدداً بصياغة دستور يمنح الرئيس صلاحيات هائلة. بعد 1053: كل رئيس مصري كان ضابطاً في الجيش سيثبت هذا التدبير مدى فاعليته بالنسبة إلى الجيش، فقد كان كل رئيس مصري منذ عام 1953 ضابطاً في الجيش، وطوال جيلين، تمكن الجيش، عن طريق الرئيس، من توظيف معظم موارد البلاد في مجال الأمن القومي، عبر التسلح للانخراط في سلسلة من الحروب الكارثية مع إسرائيل. كادت تلك الهزائم، إلى جانب إهمال الحكومة للقطاع الاقتصادي، أن تؤدي إلى إفلاس البلاد، ثم اندلعت الثورة الشعبية بين عامي 1975 و1977 بسبب سياسات الحكومة الاقتصادية. من أجل استعادة السيطرة على الوضع، اختار الجيش الابتعاد عن خيار الحرب والتركيز على التنمية. لذا انسحب تدريجاً من السيطرة المباشرة على الحياة السياسية، وسلم الصلاحيات للقوى الأمنية المحلية وغيرها من الجهات النافذة والداعمة للحزب الحاكم في مصر، وهي جماعات صغيرة من رجال الأعمال المدنيين الذين استفادوا من عمليات البيع والشراء من الحكومة بهدف زيادة حجم ثرواتهم الخاصة. خلال التسعينات، شن مبارك حرباً محلية ضد الإسلاميين، فتطور دور الجيش أكثر، وبعد أن أصبحت الحكومة تتكل على توسع صلاحيات الشرطة المحلية، تراجع حجم الجيش وأهميته. مع مرور الوقت، حلت الشرطة ووزارة الداخلية مكان القوى المسلحة ووزارة الدفاع كحجر أساس للنظام. في غضون ذلك، زاد نفوذ الفصائل المنتمية إلى نخبة رجال الأعمال الذين استفادوا كثيراً من الدولة، مثل رجل الأعمال النافذ الذي تعرض الآن لإهانة كبرى والزعيم السابق للحزب الحاكم أحمد عز. لقد منحهم مبارك ميزة الانتساب إلى الحزب الديمقراطي الوطني الحاكم، فأقنعوا أعضاء الحزب بضرورة أن ينفتح الاقتصاد المصري على التجارة العالمية، ما ساهم في زيادة حجم ثرواتهم. إشراك الجيش في الكعكة الاقتصادية لقد هدأت أوساط الضباط لدرجة معينة بسبب الثروات الاقتصادية التي حصلوا عليها بدورهم. طوال فترة التسعينات، زاد تدخل الجيش في مجال الاقتصاد، وفي العقد الأخير، أشارت التقديرات إلى أن الصناعات التي يملكها الجيش سيطرت على نسبة تتراوح بين 5 و20 في المئة من الاقتصاد المصري كاملاً. كذلك، يحصل ضباط الجيش على مجموعة من المنافع، مثل التمتع بمعاملة خاصة لتسهيل حصولهم على السلع والخدمات. اليوم، يظهر الجيش بصورة القوة التي تفرض النظام، والحكم الحيادي بين الخصوم المتناحرة المختلفة، لكن لديه حتماً مصالح خاصة مهمة يدافع عنها، وليست تلك المصالح حيادية بأي شكل. لقد استفاد الجيش من البنية الأساسية للدولة المصرية بشكلها الراهن. على صعيد آخر، تبدو المطالب العملية للمحتجين بسيطة: إنهاء حالة الطوارئ، وإجراء انتخابات جديدة، وضمان حرية تأسيس الأحزاب من دون تدخل الدولة، لكن هذه المطالب ستؤدي إلى فتح المجال السياسي أمام جميع فئات البنية الاجتماعية والسياسية في مصر، وقد يشمل الأمر تغييرات دستورية وقانونية، مثل إصلاح مصر عبر تحويل النظام الرئاسي إلى نظام برلماني، حيث تختار أغلبية منتخبة في أجواء حرة رئيس الحكومة (الذي يعين الآن من الرئيس)، إذ ستؤدي أي تغييرات مماثلة إلى نسف بنية السلطة التي أسسها الجيش في عام 1952 ولا يزال يدعمها منذ ذلك الحين. الجيش حجر الزاوية في الصراعات سيؤدي قيام برلمان ينبثق عن انتخابات حرة وإعادة تشكيل الحكومة إلى إضعاف منصب الرئاسة، وهو موقع سيحاول الجيش استعادة سيطرته عليه، فضلاً عن ذلك، قد تساهم الانتخابات المفتوحة في منح النخبة الجديدة من رجال الأعمال صلاحيات مهمة في البرلمان حيث سيتمكنون من العمل على الحد من دور الجيش في المجال الاقتصادي. هذا ما سيعرض أملاك الجيش الاقتصادية الهائلة للخطر، بدءاً من فائض أنابيب البروبان التي توفر غاز الطبخ لجميع المنازل المصرية، ووصولاً إلى الملبس والمأكل وخدمات الفنادق. كذلك، لطالما فضل الجيش أن يكون الحُكم منظماً وهرمياً. إنه وضع غير مريح نظراً إلى تنامي نسبة المشاركة في الاحتفالات الشعبية بسبب سقوط النظام، وحتى لو كان الضباط مستعدين لتحمل تحركات مماثلة أكثر مما فعل أجدادهم في فترة الخمسينات، فهم سيحاولون على الأرجح حصر المشاركة في الحياة السياسية ضمن فئة الأشخاص الذين أمضوا حياتهم في الجيش من خلال الحفاظ على نظام يمنح الرئيس صلاحية تعيين وزراء الحكومة. بدل السعي إلى إجراء تغيير مؤسساتي، من المتوقع أن تحاول الشخصيات العسكرية البارزة إرضاء الشعب من خلال اتخاذ خطوات رمزية، فهي ستجري حتماً تحقيقات مع أكثر رجال الأعمال فساداً وشركائهم في الوزارات بسبب إساءة استعمالهم للأموال والأملاك العامة. في الوقت عينه، من المتوقع أن يُفتح تحقيق بشأن ممارسات وزير الداخلية السابق بسبب إصداره أوامر بقتل المتظاهرين عمداً خلال الأزمة الأخيرة. لاعبان كبيران: طنطاوي وسليمان في حال وسع الجيش نطاق سيطرته، سيؤدي لاعبان سياسيان من الأطراف الموجودة راهناً على الساحة السياسية دوراً محورياً. أولاً، يعتبر سليمان، الذي تربطه علاقة وثيقة بالجيش، محور جميع المفاوضات بين فصائل المعارضة، وهو يظهر بشكل شبه دائم على شاشات التلفزة، فلا عجب إذن في أنه أوضح عدم نيته إصلاح النظام الرئاسي، فقد عمد سليمان إلى اللعب على عامل الوقت، ولطالما أصر على ضرورة أن تبقى المفاوضات محصورة في إطار تغيير المواد الدستورية الثلاث المتعلقة بالانتخابات. ثانياً، صحيح أن وزير الدفاع المصري، حسين طنطاوي، لم يظهر في الإعلام بالقدر نفسه، إلا أنه لا يقل أهمية عن غيره، فهو كان وراء إعلان الجيش قراره بعدم إطلاق النار على المصريين، على عكس قرار عناصر الأمن المكروهين والمنتمين إلى سلك الشرطة. لم يطلق الجيش النار على أي من المتظاهرين ولا على "بلطجية" السلطة الذين هاجموهم، حتى أنه ذهب إلى حد اعتبار مطالب المحتجين مشروعة. لدرجة ان بعض المحتجين وأعضاء من جماعات حقوق الإنسان لذين اعتقلهم الجيش قالواعندما أُطلق سراحهم إن بعض ضباط الجيش بقوا متعاطفين مع دعوات مبارك الذي اعتبر أنه ملزم بتنفيذ مهمة وطنية، ومع ذلك، سيحاول الجيش، في عهد طنطاوي، الظهور بصورة الطرف الحيادي في أثناء التفاوض مع بقية أطراف المعارضة من أجل ضمان مرحلة انتقالية هادئة، حتى لو كان سليمان يسعى إلى إبقاء نطاق الإصلاحات محدوداً. لقد سقط نظام مبارك بالشكل الذي اتخذه خلال العقد الأخير، بمعنى أنه كان نظام حكم على درجة عالية من الفساد وقلة الكفاءة، وقد منح امتيازات اقتصادية هائلة لمجموعة من رجال الأعمال المرتبطين به سياسياً. لا يزال الاحتمال قائماً في أن ينشأ نظام سياسي أكثر انفتاحاً وحكومة أكثر تجاوباً تضمن سلامتها الخاصة عبر تقليص سلطة الجيش وصلاحياته، وقد يتدخل الجيش باعتباره سلطة انتقالية ويعترف بأنه لا يستطيع استعادة كامل سيطرته، كما يعتبر الجيش المصري على درجة أعلى من الاحتراف والثقافة مما كان عليه خلال الخمسينات، لذا قد يقر عدد من الضباط بمنافع الديمقراطية، لكن من الممكن أن يؤول الوضع إلى انقلاب بطيء وعودة الاستبداد العسكري الصارم الذي طبع العقود الماضية. أليس غولد بيرغ/فورين أفيرز ترجمة: هناء عليان