· قمة إنجاز الثورة هوفرض الشرعية الشعبية علي سلطة الحكم ولم يشهد العالم كله علي مر العصور حاكما يذهب إلي الناس في الشارع · أرجوألا نضيع زخم الثورة بالتسويف والتمديد والجدل التنظيري والأكاديمي ولا تفرض النخبة وصايتها علي الناس المنظر في الساحة السياسية يكاد ينبئ بأن الثورة تهيم في وادي التيه، وأن الوصاية النخبوية الفوقية تتعالي علي الإرادة الشعبية، وتحاول السيطرة عليها وتطويعها وركوب موجتها، أرجوألا يعطي حديثي هذا أي انطباع يتصل بالتشاؤم أواليأس، فكل ما أريده هو إعادة إطلاق صيحة تحذير بأن خريطة العمل السياسي، علي المستوي الرسمي والشعبي علي حد سواء، تعاني من سيولة شديدة وارتباك فكري وفلتان تنظيمي، الأمر الذي لا يبشر كثيرا بسهولة نجاح الثورة المصرية التي قامت يوم 25 يناير في الوصول الي تحقيق هدفها الرئيسي وهواقامة حكم ديمقراطي يحقق حلم الشعب المصري بأن يحكم نفسه بنفسه بعيدا عن غاصبي سلطته ومزيفي إرادته، وهذه الفرضية لوصحت - لا سمح الله - فإننا سنعاني من مأساة وطنية كبري إذا أجهضنا مكاسب هذه الثورة العظيمة التي نفضت عنا، ربما لأول مرة في تاريخنا، غلائل الذل والقهر والفقر وخلصتنا من حكم ديكتاتوري كئيب دمر كل مرافقنا التعليمية والصحية والاجتماعية والثقافية واسقط مصر العريقة بحضارتها وثقافتها وخلقها وسماحتها في أتون البلطجة والتدني الاخلاقي وتحالف مع اللصوص في نهب المليارات من ثروة هذا الشعب وسلبه حقه في الحياة الحرة الكريمة. ولعلنا نتفق جميعا بأن قمة انجاز الثورة هوفرض الشرعية الشعبية علي سلطة الحكم، ولم يشهد العالم كله علي مر العصور حاكما يذهب الي الناس في الشارع ويعلن أنه يأخذ منه شرعيته. ولهذا فإن هذه الثورة المتفردة تستحق منا بذل أقصي جهودنا وتكريس كل إمكانياتنا الفكرية لحمايتها حتي تستطيع مصر أن تقف في مصاف الدول الديموقراطية المتقدمة وحتي ينعم شعبنا بالحرية والرفاهية، في سابقة فريدة ودرس عميق لدول العالم الثالث الذي تستند فيه سلطة الحاكم الي قوات الجيش بدلا من إرادة الشعب .. ولا بد من أن نؤكد أن ذلك يرجع في المقام الأول إلي تخبط النخب والائتلافات المشرومية من جهة وإلي فتاوي وآراء عفي عليها الزمن وتجاوزتها الثورة يهمس بها المستشارون في أذان المسئولين في المجلس والحكومة، كذلك توحي القرارات بأن هيئة المستشارين وان لم ينتم بعضهم للفكر القديم فقد تنقصهم بعض القدرة علي استيعاب وتحليل معطيات التطورات الجذرية التي تمر بها البلاد ومن ثم علي إبداء المشورة المستنيرة للحكام، ومن هنا فالمسئولية لا تلقي في المقام الأول علي المجلس الأعلي للقوات المسلحة ولا علي رئيس وزراء الثورة، ليس فقط بسبب فتاوي المستشارين، ولكن لانفجار كاسح في التوجهات الجديدة التنظير والغلوفي المطالب الفئوية وابتداع وسائل الاضراب والتظاهر والاعتصام مما لا يساعد علي المضي قدما في إرساء العملية الديموقراطية، ناهيك علي الفلتان الأمني وانتشار ظاهرة البلطجة التي ابتدعها ودعمها النظام السابق والتي نقلتها أنظمة عربية أخري في صور وأسماء مختلفة . ولعل عدم مواكبة الاستشارات لمعطيات المرحلة هوالذي دفع الحكام في المجلس والحكومة إلي إجراء لقاءات أوسع نطاقا بأسماء مختلفة ( حوار- وفاق ) بل واتجاه المجلس الي تنظيم استبيانات مباشرة لعناصر مختلفة التوجهات. والسؤال الذي يتبادر للأذهان يدور حول طبيعة الحوارات وأهدافها، فهي مطلوبة ومشروعة إذا كان القصد منها استبيان الآراء والتوجهات للقوي التي شكلها جيل جديد تماما لم تصل الدراسات والتجارب إلي تناولها وتعريفها. ولكنها يجب أن ترفض تماما إذا كان الهدف منها هواملاء أحكام أوقوانين أونظم علي الصندوق، أواستئصال فصيل سياسي.. ولعلنا نتلمس مدي التخبط الواسع بين النخب و الشباب في طرح بعض ما برز في شكل تلك الجدليات التي لا طائل من ورائها في شأن بعض المسلمات السياسية والقانونية والاجتماعية فأثارت جدلا حاميا وخلافات مكثفة لم تسفر عن توافق عام حتي الآن، وهوأمر يعرض البلاد لخطر داهم هوإطالة الفترة الانتقالية التي حددها المجلس الأعلي بكل استنارة ووطنية بستة أشهر، فاذا بالنخب تطالب لأول مرة في تاريخ الثورات في كل دول العالم باطالة حكم العسكر لمدة سنتين.. ولا يخفي هنا ما يحمله تمديد فترة الحكم المؤقت الحالية في طياته- لوتمت الإطالة - خطورة شديدة قد تعرض البلاد لتطورات غير مواتية داخل الجيش أوفي الشارع قد تأتي لنا بحكام جدد لهم اجندات مختلفة، وهوما قد يبدد آمل الثورة الكبير في إرساء حكم ديموقراطي برلماني سليم وفقا للجدول الزمني الذي حدده المجلس الأعلي للقوات المسلحة.ونعرض فيما يلي -علي سبيل المثال لواحدة أو اثنتين فقط من هذه الجدليات التي تنشغل الجدل لمجرد الجدل - بحسن نية - لخلوها من أي أساس يربطها بصالح الوطن: تشكيل مجلس رئاسي مدني: وهواقترح تنقصه الكياسة وبعد النظر فضلا عن أنه لا ضرورة ترجي منه أوتدفع إليه، فالمجلس العسكري الحاكم يؤدي مهمته المؤقتة باقتدار وحكمة ووطنية فضلا عن قيادته للقوات المسلحة، وأي مجلس أوكيان آخر سيفتقد القوة والسيطرة علي الثورة المضادة والمتسلقين علي الثورة ممن لم يشارك فيها. مقولة الدستور أولا: وهوأمر يبدومنطقيا أوردته كل كتب الفقه الدستوري التي توكل جمعية تأسيسية بإعداد دستور يعرض باستفتاء عام علي الشعب لاقراره، وبذلك يتحدد شكل الدولة: برلمانية- رئاسية- برلمانية رئاسية - مجلس برلماني واحد اومجلسين واختصاصات كل منهما ونظامها والفصل بين السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقانونية مع ضمانات بعدم توغل السلطة التنفيذية. غير أن الأحوال في مصر لا تتحمل هذه التنظيرات الفقهية لأسباب عدة أولها هوحاجتها الي وقت طويل وهوأخطر ما يواجه عملية إرساء الديموقراطية كما أوضحنا سالفا، كما أن لدينا دساتير كاملة يمكن الرجوع إليها من دستور 1923 إلي دستور 1957 الي مشروعات أعدها خيرة فقهائنا الدستوريين نشير منها إلي مشروع الدكتور ابراهيم درويش والأستاذ عصام الاسلامبولي، يضاف إلي ذلك أن وضع دستور لم يعد أمرا صعبا بعد أن استقرت غالبية المبادئ التي تكرس الحرية والمساواة وحقوق الانسان وهي أحد مصار التشريع التي نص عليها النظام الاساسي لمحكمة العدل الدولية والتي كرستها العديد من المعاهدات الدولية، وعليه فإذا كلف البرلمان المنتخب من الشعب لجنة أوجمعية لاستنباط أحكام دستور جديد للبلاد يختار منها ما يتوافق عليه النواب في شكل الدولة ونظامها وغير ذلك من التفاصيل التي تواكب المجتمع المصري الجديد بعد الثورة ومنها علي سبيل المثال الغاء كل القيود غير المبررة علي الديموقراطية مثل تحديد نسبة للفلاحين والعمال وكوتة للمرأة، فيقوم البرلمان بعد الموافقة عليه بطرحه علي الاستفتاء العام، فإن هذا المدخل لا يختلف عن شكل الجمعية التأسيسية ويوفر الوقت ويسرع الخطي نحواستكمال البناء الديموقراطي بانتخاب رئيس الجمهورية وتسلم الحكم المدني السلطة من المجلس العسكري مع كل التقدير والاحترام والعرفان. ولعلنا نلاحظ في ذلك النهج الغريب، في الدعوة للحوار وتعويق مسار ارساء الديموقراطية، اول شعب في التاريخ يستمرئ الحكم العسكري ويسعي الي الاقصاء ويتلاشي ايمانه بالديموقراطية وبحكم الشعب وصندوق الانتخاب بدلا من ان يعلي رأي الشعب ويحترمه ويقبله خاصة ان إنجاز الخطوات اللازمة للوصول الي تشكيل برلمان منتخب ينظر في مشروع الدستور ويطرحه علي الشعب في استفتاء يوفر علينا صياغة تشكيل جمعية تأسيسية والوقت الطويل الذي تستلزمه . والقضية التي يجب حسمها هنا في شأن ما تدعو إليه النخب مما يسمونه حوارات مجتمعية، وهوأمر مفيد ومطلوب، ولكنه لا يجب أن يعطل ولا يستعلي علي إرادة الشعب التي يحددها صندوق الانتخابات ولا أن يملي عليها إرادة القلة، ذلك يجب ان نقلع فورا عن أي محاولة لخلق فزاعات انتخابية والتكتل لاقصاء فصيل أو أكثر لأن ذلك من شأنه أن يقضي علي الفكر الديموقراطي الحر الذي يلتزم بما تقرره الأغلبية في الصندوق. ولنؤجل الجدل حتي يجري مع أصحابه وفي وسطه وهو البرلمان الذي ينتخبه الشعب.. من اجل ذلك وغيره ما يزيدنا التباسا في الفكر الحر والفلتان المجتمعي، نستشرف بقلق شديد ما نرقبه من تيه وتخبط بين النخب والرموز والشباب في تحديد معالم المسار نحوإرساء حكم مدني ديموقراطي نعبر به من التخلف والفقر إلي الحرية والرفاهية. ,وأرجوألا نضيع زخم الثورة بالتسويف والتمديد والجدل التنظيري والأكاديمي وألا تضع النخب قيودا من شأنها فرض وصايتها علي الناخب واستئصال بعض فصائل دون أخري في اتجاه معاكس تماما لمبادئ الحرية، فضلا عما تسببه من إطالة المهلة التي حددتها القوات المسلحة وهوأمر ليس في صالح الديموقراطية بل يهدد بوأدها والالتفاف حولها.