بعد نجاح الثورة وما واجهته من مشاكل، فتنة طائفية مفتعلة أخذت تتفاقم وتتصاعد بلا هدف ولا معني لكي تقع علينا جميعا بخسارة جسيمة تثقب المركب التي نعيش فيها وتشرد اهلنا وتقتل الابرياء منا بلا ذنب دون مبرر ولا يستبعد قيام اعداء الامة بدور فيها، يضاف الي ذلك انفلات أمني خطير ما زال يهدد استقرار الدولة وربما ساعد علي ذلك سلبية كبري تتمثل في تغلغل مستشارين من الفكر القديم في أروقة صنع القرر، وبقاء بعض فلول النظام القديم وزاد من التخلخل الذي نعانيه القبض علي الثوار بتهمة البلطجة وهوالامر الذي واجهه المجلس العسكري بحكمة وتسامح. ارجو أن اكون مخطئا اذ اقول إن هذه السلبيات والمتاهات جعلتني أخشي لوهلة أن بخار ثورة 25 يناير قد اخذ في التسرب وأن وميض وهجها بدأ يخبو، وامامنا دروس من الثورات الاوروبية والعربية، فالثورة الفرنسية ام الثورات اخذت تأكل اولادها ولم تستقر مطالبها الا بعد عشر سنوات، وفيما يطلق عليها ثورات عربية والتي كانت في حقيقتها انقلابات عسكرية، فإن الثورة لا تفعل اكثر من نقل السلطة من ديكتاتور الي ديكتاتور جديد وهوقول مأثور لبرنارد شو إن لم تخن الذاكرة، وان كانت الثورات الجديدة في تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن نبعت من معاناة الشعوب العربية ورفضها أن تعيش التخلف والقهر وسرقة ثرواتها ومستقبلها وانبطاح حكامها في أحضان قوي أجنبية ليست صديقة لها، وبينما لم يتدخل الجيش في تونس ومصر راحت الانظمة تسخر جيوشها لذبح الاحرار والثوار وما زالت هذه الثورات الوليدة تفتقد تنظيما مسبقا أوضمانا يحول دون أن تتسلم نظم شمولية تلك الثورات لعدم وجود نظام ثوري وافتقاد خطة عمل ممنهجة لخطوات ارساء الديمقراطية.. وعلي هذه الخلفية ومع تأييد ثورات الشعوب العربية نعود فنري كيف ننظر الي ثورتنا العظيمة التي كانت بكل المقاييس ثورة متفردة غير مسبوقة تعكس حضارة اول دولة في العالم كانت ترفل في مجالات العلم والفن والثقافة والحكمة بينما كان العالم كله يغط في الهمجية والتخلف، وقد ولدت الثورة من رحم جينات حضارة عريقة وتقاليد قديمة دامت سبعة آلاف سنة.. والجديد هنا هو ذلك التناقض المستجد بين ما قامت به الثورة من خلع الحاكم الفرد وبين خصيصة الحضارة المصرية التي تقوم علي تأليه وطاعة الفرعون والانصياع لإرادته مهما سببته لهم من ظلم وقهر وفقر كان المصريون يعتبرونه ابتلاء مقدسا لا يمكن البرء منه، وكان المصريون يثقون أن أعمال الفرعون تأتي في النهاية لصالح مصر، فعندما بني خوفو هرمه الأكبر عاب علينا المؤرخون استبداد الحاكم الذي جند شعبا بأكمله لبناء قبر له ولم يفهموا أن المصري القديم كان يبني هذا الصرح العظيم لصالح مصر لأنه يقدم دليلا علي عبقريتها وعظمتها، وعندما أمم عبد الناصر قناة السويس وبني السد العالي واحدث انقلابا اجتماعيا لصالح الفقراء وبني مصر الرائدة القوية قبل المصريون حكم الفرد حبا في مصر قبل أن يكون تأليها للحاكم.. وهذا هوالتقليد الذي جاءت الثورة لتحطمه، فالحضارة في طبيعتها ترفض التخلف والسرقة وتحارب الأفول، وهوما حدث لنا في القرن الماضي - اذا استثنينا هبات عمر مكرم وعرابي وسعد زغلول التي كانت موجهة اساسا ضد الاجانب- وليس ضد حاكم متسلط، والحضارة لا تقبل نهب أموال البلاد وتسريبها للخارج، أوأن تنبطح مصر العريقة تحت عباءة دول أجنبية تنفذ أجنداتها الخاصة التي لا تتوافق بالضرورة مع مصالحنا وامانينا الوطنية والقومية، وهوما كشفته علي الملأ ثورة الاتصالات وشبكات التواصل الاجتماعي وعرض فيديوهات لما يجري من قمع وقتل وانحراف، فأصبح الخنوع والسكوت غير مقبولين لدي الشعوب علي اختلاف مشاربها. ومن هنا كانت بواعث الثورة المصرية هي نوع من الدفاع عن النفس وحفظ النوع قادت الشعب لتحطيم ركن هام من اركان حضارته وهوحكم الفرد وتأليه الحاكم وكانت هذه مفاجأة كبري للحاكم وزبانيته الذين عاشوا علي اذلال الانسان المصري وحرمانه من حقوقه ومن ثروته التي راحوا ينهبونها بقسوة وبلا حدود. لم تتميز ثورة 25 يناير فقط بأنها أول ثورة ضد الفرعون، ولكن ما يسترعي الانتباه هوان مفجريها الاصليين كانوا شبابا غير مسيس لا ينتمي لأحزاب ولا يخضع لقيادة وقد سميت بحق ثورة بلا راس حتي بعد أن انضم اليها الشعب بكل فصائله رجالا ونساء واطفالا مسلمين واقباط. وظلت مشتعلة حتي هوي عرش الفرعون ولم تكن لتنجح لولا أن حماها الجيش المصري الذي انحاز دائما للشعب فكانت ثورة حماها ما يشبه الانقلاب العسكري وليست انقلابا تحول الي الثورة كما حدث في 23 يوليو1952 .. وبعد خلع الدكتاتور ونظامه اندفعت النخب والقوي السياسية في محاولات متسرعة وغير ممنهجة لركوب موجتها اوللسيطرة عليها، وكان شباب الثورة واعيا فلم تنطلي عليه شعارات ولا خطب، وتطور الامر الي وجود فراغ سياسي حاول الشباب سده ولكن بتنظيمات هشة تنقصها الخبرة والحنكة السياسية والتنظيمية وغيرها مما حمل في طياته انفضاض الوحدة والتضامن بين قوي شباب الثوار. وفي ذات الوقت لم تنجح النخب في التعامل مع ذلك الفراغ السياسي، فأخذت مصداقيتها تنضب في عيون الشباب والأجيال غير المسيسة، فغالبية الاحزاب القديمة التي كانت قائمة قبل الثورة أخذت تتواري خلف ستار كثيف من الفشل وفقدان المصداقية، وكان ذلك الوضع حافزا لمحاولات عديدة لتنظيم صفوف القوي السياسية وابتداع متسرع لبرامج جديدة لأحزاب جديدة. وظهرت تكتلات ضد قوتين اساسيتين هما فلول الحزب الوطني وجماعة الاخوان المسلمين التي بادرت الي خطوة هامة هي تأسيس حزب سياسي منفصل عن الجماعة الدعوية، وقد تجسد هذا التنافس مؤخرا في ثلاثة أحداث هامة: الأول هومؤتمر مصر الأول الذي عقد في 7 مايوبقاعة المؤتمرات وحضره حشد كبير من كل الوان الطيف السياسي والمدني فيما لم تمثل فيه قوة سياسية هامة واستمر العمل في لجان المؤتمر بكل جدية حتي السابعة مساء وخرج بافكار وتوصيات عن الدستور والسياسة التنموية والاجتماعية واوصي بانشاء مجلس لحماية الثورة والثاني هو مؤتمر مجموعة التحرك الايجابي الذي ينظم مناظرة حزبية في بادرة جديدة علي المسرح السياسي المصري يشارك فيها الدكاترة محمد ابوالغار واسامة الغزالي حرب ونجيب ساويرس وسكينة فؤاد وايهاب الخراط واحمد شكري وريهام حمزة.. والثالث هوقرار الاخوان المسلمين تأسيس حزب سياسي وافتتاح مقر جديد بعد أن زالت عنها القيود ولم تعد محظورة بل اتهمت بأنها علي نوع من الاتصال أوالتحالف أوالتعاون مع الجيش. وشهدنا بعد ذلك تزاحما غير مسبوق في الترشح للرئاسة، وتحدث كل منهم عن برنامج متشابهة إن لم تكن متطابقة وكأن كل خيوط السلطة في يده وان ارادته تعلوعلي الجميع، ولا يفوتنا أن نشير إلي أن هناك ترشيحات ساذجة ربما لا تهدف اكثر من الحصول علي لقب مرشح سابق لرئاسة الجمهورية. وفي خضم ذلك كله تناثرت الاقتراحات والآراء ايهما أسبق الانتخابات البرلمانية أم الرئاسية، أم صياغة واعتماد الدستور الجديد، ثم جاءت طرفة ولغز الحوار الوطني التي لا تقدم أطروحات أومفاهيم محددة والتي من شأنها تصعيد حدة الخلافات بين القوي السياسية.. ولا يفوتنا أن نشير الي أن كل هذه الصراعات الدينامية لا بد أن تتم في اطار محكوم يتفادي انتشار الفوضي والتسيب، وان يتجه هدفها الي تمهيد الطريق نحونضوج سياسي نمارسة لاول مرة ولا بد أن نخوض غماره حتي يتبلور الفكر الجديد وتتشكل الاحزاب الجديدة علي اساس برامج متباينة يقل انتشارها علي ضوء نتائج الانتخابات والتأييد الجماهيري الي عدد قليل.. ولا ننسي أن نشير ونرحب بالفضائيات والصحف الجديدة والكتاب الذين خرجوا من عزلتهم وراحوا يساهمون في الجدليات الفكرية لصياغة مسار الثورة في ارساء ديموقراطية راسخة وقوية لا تزلزلها الأحداث وتتآخي مع القوات المسلحة كحامية للدستور وليست حاكمة من وراء ستار. ولكني هنا أنبه بأن الإقبال الكبير والإعجاب والتقبل الظاهرين ببرامج التوك شو وبمانشيتات صحف المعارضة قبل الثورة قد فقد الكثير من الزخم بعد الثورة فلم يعد كافيا أن تدير شصية شهيرة مثل محمود سعد ومني الشائلي وابراهيم عيسي وبلال فضل ويسري فودة وغيرهم هذه البرامج دون تغيير كبير في التناول يضع في اعتباره تغير الظروف ولا يخفي علينا ما لوحظ مؤخرا وبعد الثورة من تناقص الاقبال علي تلك البرامج رغم ما تتمتع به هذه الشخصيات اللامعة من جماهيرية كبيرة ويستوجب هذا التغيير الجذري اجراء تعديل جوهري علي اختيار الموضوعات من جهة وأسلوب التناول ولغة الخطاب من جهة أخري، وينطبق ذلك ايضا علي مهنية وتناول الصحافة اليومية والاسبوعية الحكومية والمعارضة خاصة بعد أن قلت مساحة التباين بعد اتساع هوامش الحرية، نحن اذن ندخل حقبة جديدة تستوجب ملاحقتها بتناول جديد، واهم ما في الأمر هوالتركيز علي التحديات التي تواجه الثورة والأفكار الجديدة التي تساعد علي تفكيك أسلوب التفكير القديم الذي ساد وتجذر في ظل النظام القديم والذي يشكل عقبة كبيرة أمام استمرار الثورة في خطها الجديد. علي هذه الخلفية لا أخفي ما شعرت به - كغيري - من قلق شديد لما ساد من تيه وتخبط بين النخب والرموز في استشراف معالم المسار نحوارساء حكم مدني ديمقراطي نعبر به من التخلف والفقر إلي الحرية والرفاهية.. وأرجوألا نضيع زخم الثورة بالتسويف والتمديد والجدل التنظيري والأكاديمي وألا تضع النخب قيودا من شأنها فرض وصايتها علي الناخب واستئصال بعض فصائل دون أخري في اتجاه معاكس تماما لمبادئ الحرية، لأن إطالة المهلة التي حددتها القوات المسلحة ليست في صالح الديمقراطية بل تهدد بوأدها والالتفاف عليها. ومازالت الثورة تواجه تحديات خطيرة في الداخل والخارج فعلي كل القوي الوطنية النبيلة أن تقابلها بالنضال المستميت لمواجهتها. وختاما اود أن اساهم في تسليط الأضواء بايجاز شديد علي المحاور العاجلة التالية: استكمال البناء الديمقراطي للدولة والحرص علي ارساء حكم يضع المسئولية الاولي علي رئيس الوزراء ويكرس الانتخاب بالقائمة النسبية ويستبقي الحد الادني اللازم من سلطات رئيس الجمهورية وعدم المطالبة بمد الحكم العسكري لازاحة عبء الحكم عن كاهل الجيش.. الحفاظ علي ثوابت السياسة المصرية القائمة علي الحفاظ علي المصالح المصرية الاستراتيجية واستعادة ما اهمله النظام القديم وهومجال يحتاج الي معالجة مركزة ومتعقلة تطور ثوابتا دورنا علي مر السنين ولا تغيرها.. التحدي الحيوي الهام العاجل الذي يتصدر كل التحديات هوالوقوف في وجه التلاعب الماكر الحثيث بحصة مصر من مياه النيل من مصر بعد أن تدفق فيها مئات الآلاف من السنين وأصبح هو ومصر صنوان لا يفترقان.. الوفاء بالتزاماتنا العربية والدولية، وأن تعود مصر لممارسة دورها الفاعل خارج حدودها.وكان خير من يقوم بذلك بكل اقتدار نابع من ايمان راسخ بوطنه وأمته هوالدكتور نبيل العربي، ولا أقول أننا خسرناه في وزارة الخارجية كما خسرته حكومة الثورة التي كان وجوده فيها يقويها ويدعمها، فقد ذهب ليقاتل من اجل ذات المباديء والأهداف في ميدان اكثر رحابة واقل تنظيما عاني طوال عقد من الزمان من انكسار وانبطاح النظام العربي الرسمي الامر الذي انعكس بالسلب علي فاعلية ونفوذ جامعة الدول العربية وامينها العام السابق وهنا تتفتح ابواب الامل في عمل عربي مشترك فاعل ومؤثر نتيجة لتسونامي الغضب الشعبي العربي. أما وزارة الخارجية فقد اصابها التجريف الذي تحدث عنه كاتب كبير غير انه لا خوف علي مسار سياستنا الخارجية اذا حددنا ثوابتها بوضوح شديد امام الوزير الجديد وارجوالا يكون من المنبطحين في دولة عظمي اوممن نظم فعاليات مزيفة