حارب في اكتوبر 73 , وشارك في اشرس معاركها , معركة الدبابات , خلفت الحرب على روحه صمتا طويلا واستغراقا مبهما , هل صمته تفكير ام شرود , لن تستطيع ان تعرف على وجه التحديد , لكن صمته لم يمنعه من ان يجمع ابنائه حوله في بعض ليالي الصفاء , ويقص لهم لمحات صغيره عن الحرب , وكيف كانت مدافع الدبابات تتعانق من شدة وطيس المعركة , لم يدرج مشاعره كجزء من الحكاية , و لكنها كانت جلية من خلف لمعة عينية , تراه شعر بالخوف , بالتردد , بالتهور , بالرغبة في الانتقام , لا احد يعرف ولا احد يجرئ على السؤال , كان حديثه عن الحرب عزيزا رغم كل شيء , واستشف ابنائه من خلال طول صمته انه لا يفضل الحديث عنها كثيرا , عقب انتهاء الحرب لم يجد لنفسه عملا لائقا في وطنه , فاغترب ليؤمن حياة كريمة لأبنائه , سحبته سنون الاغتراب , السنه تلو الاخرى , كلما فكر في العودة هاله سوء الاحوال في مصر , حتى توفاه الله في منفاه الذي فرضه عليه واقع بلده , مات وبين اضلعه حنين لأرض دافع عنها بروحه و بدمه , ولم يجد له مكانا فوقها ولا تحتها , لم يضمه ثراها , ضمته ارض منفاه الغريبة , عاش غريبا ومات غريبا. فلسطيني يعيش مطرودا من وطنه , مغتربا اغترابا اجباريا لسنين طوال , يقدر له الله زيارة بيته الحرام معتمرا بعد محاولات مستميتة و مستديمة , فيسافر حاملا بين اضلعه نسمات صباح الخليل , وبعضا من نفحات مقدسية , وعقب انتهائه من المناسك , يرتدي غطرة فلسطينية مطرزة بياسمين الشام الابيض , لحظات قليلة ونادرة في تاريخه هي تلك اللحظات التي يمكنه فيها المجاهرة بهويته و التصريح عن ذلك الحنين الذي يقتله دون ان يشعر بانكسار او تعتصر قلبه مرارة العجز , يمضي ليالي سفرته حالما بصلاة في المسجد الاقصى. طفل سوري صغير يقف شبه عاري الجسد على ارض جليدية , لا يفهم من الاغتراب شيئا سوى ان كل الوجوه التي تحيط به غريبة , لا يذكر تفاصيل ما حدث , وبالكاد يستطيع ان يجمع ذكرى واحدة صحيحة عن اسباب اختفاء امه و ابيه , وهن جسده لا يمكنه من الامعان في التذكر , يعطيه وجها من لوجوه الغريبة ورقه نقشت عليها بعض الحروف التي لا يستطيع قراءتها , ويضعه امام عدسة الكاميرا , يجتمع في الصورة خليطا من البؤس و الوجع الغير متناهي , البرد الجوع الخوف و الوحدة , اين انت يا ماما , نطق بها قلبه . مهندسا معماريا يعمل على مشاريع سكنية عملاقة في احدى المدن الجديدة , يبني فيلات لأناس لا يعرفهم , ويعرف يقينا انهم في غنى كامل عنها وأنهم لن يسكونها قط , هي اقرب ما يكون بالمشروع الاستثماري , يشترون برخص التراب ويبيعون بالملايين , يعمر ارضا ليس له فيها من مكان , ولا يستطيع امتلاك مسكنا صغيرا لنفسه ليتزوج فيه , يمر اثناء عودته الى بيت اهله بمنطقة عشوائية تتكون البيوت فيها من عشش صفيحية ويعيش قاطنيها تحت خط الفقر بمراحل , يحمد الله على فرشه الذي يمتلكه في منزل والده , و لا يستطيع ان يهزم شعوره بالاغتراب داخل وطن لم يستطيع توفير اربعة جدران له ولقاطني الصفيح.