فيما تبدو تصرفات الرئيس (الإخوانى) محمد مرسى صغيرة إزاء ذكرى القائد العظيم جمال عبد الناصر، فإن ضريح عبد الناصر بعد 42 سنة على رحيله يبدو كمحطة حنين سياسى واجتماعى واسع. وليس الأمر مقصورا على الناصريين، ولا على القوى الوطنية واليسارية المنتسبة عموما إلى خط جمال عبدالناصر، بل يلفت النظر أن قوى «إسلامية» صاعدة تعيد النظر فى تقييم دور عبدالناصر، وكانت المناسبة: تقييم دور مرسى نفسه بعد مرور مائة يوم على رئاسته، مشروع النهضة مطب هوائى فقد انتقد عبد المنعم أبو الفتوح ارتباك رئاسة مرسى وعدم ثوريتها، ولحظ اتجاهها الملموس إلى إعادة ما كان فى الأيام الأخيرة للمخلوع مبارك، واستعادة دور أحمد عز سجين طرة فى صورة دور مماثل للملياردير الإخوانى حسن مالك، وهنا استعاد أبوالفتوح ذكرى واسم عبدالناصر، وقال إنه يختلف مع عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر فى مجال الحريات، لكن قيادة عبدالناصر كانت ثورية بامتياز، وأن ثورة يوليو 1952 أعقبتها تجربة وقرارات ثورية حقيقية، وكأن أبو الفتوح يشير إلى افتقاد قيادة ثورية لثورة يناير الأخيرة على مثال جمال عبد الناصر، والمعروف أن أبو الفتوح قيادى مرموق فى المدرسة الإخوانية، ويعزى إليه الفضل الأكبر فى إعادة تكوين جماعة الإخوان من أواسط سبعينيات القرن العشرين، وعرف بمعارضته الشديدة فى زمن السادات ومبارك، كما عرف بآرائه الإسلامية المتفتحة والمتقدمة عن عموم التفكير اليمينى فى قيادة الإخوان المتكلسة، وقد ضاقت الأخيرة به، وأخرجته من مكتب إرشاد الإخوان، وفصلته من الجماعة كلها، ثم خاض انتخابات الرئاسة الأخيرة، وحصل على المركز الرابع فى الجولة الأولى بعد محمد مرسى وأحمد شفيق وحمدين صباحى، وتقدم على عمرو موسى، وأنشأ بعد الانتخابات حزبا جديدا باسم «مصر القوية»، يستقطب عددا هائلا من القادة والشباب المنشقين أو المنفصلين عن جماعة الإخوان الداعمة لمرسى، والتى لا تخفى عداءها الصليبى لسيرة جمال عبدالناصر. وليس صعبا أن نفهم ونفسر سر استعادة ألق عبد الناصر، والاعتراف المتزايد بدوره الثورى من خصومه الليبراليين والإسلاميين، فبؤس الحال الراهن بعد ثورة يناير يستثير الحنين إلى ديناميكية جمال عبد الناصر بعد ثورة يوليو 1952، وقد ولدت الثورة الأخيرة بلا قيادة مطابقة، وهو ما يستدعى للوجدان مباشرة دور عبدالناصر كقيادة كاريزمية هائلة، وقد لا تقبل التكرار، ثم زاد الحنين إلى سيرة عبد الناصر بعد زحف الثورة المضادة إلى قيادة المشهد بعد الثورة الأخيرة، وسواء كان ذلك فى صورة المجلس العسكرى، أو فى صورة الرئيس (الإخوانى) المنتخب اضطرارا بعد حصر الإعادة بينه وبين أحمد شفيق رجل المخلوع، والمحصلة : أن الثورة قد جرى الغدر بها لافتقادها إلى قيادة على نمط جمال عبدالناصر، وقد حاول مرسى أن يغازل هذا الشعور الكامن والظاهر فى الوجدان المصرى، وبعد أن تلقى التفور العام من قولته الأولى فى ميدان التحرير عن «الستينيات وما أدراك ما الستينيات»، وسخرت منه الأقلام والأفهام وقتها، ولسبب بسيط جدا، وهو أن مرسى ولد لعائلة متواضعة اجتماعيا، استفادت من الإصلاح الزراعى الذى بدأ به عبدالناصر مسيرته، ثم إن مرسى لم يكن ليتعلم لولا التعليم المجانى الذى أتاحته ثورة عبد الناصر، وبعد أن فوجئ مرسى بسيل السخرية والتهكم من شخصه الكريم، جرب أن يكتسب شعبية خارج الإطار الحديدى لجماعة الإخوان، وأن يمضى يسارا إلى محبة جمال عبدالناصر، وحاول أن يقلد وقفة عبد الناصر الشهيرة على منبر الأزهر فى معركة 1956، وذهب مرسى إلى الأزهر، ثم راح يحاول تقليد إيماءات عبد الناصر، ثم أن يشيد بعبد الناصر صراحة فى مؤتمر عدم الانحياز بطهران، وفى كلمته بمناسبة عيد الفلاحين، وهو ما أوغر صدر قيادة الإخوان عليه، وأمرته على ما يبدو بالكف عن الإشارات الإيجابية لاسم جمال عبدالناصر لأن فى ذلك هلاك الجماعة(!). وقد لفت النظر أن مرسى فى مناسبة ذكرى حرب 1973 منح التكريم لاسم الرئيس السادات واسم الفريق سعد الدين الشاذلى، ولم يمنح التكريم لاسم جمال عبد الناصر الذى قاد عملية إعادة بناء الجيش وخوض حرب الاستنزاف والإعداد لعبور قناة السويس وتحطيم خط بارليف، وكانت كل خطط الحرب جاهزة قبل أن يرحل عبد الناصر عن عالمنا فى أواخر 1970، وبدا قرار مرسى الرمزى تعبيرا عن استعادة الرئيس لمكنون العداء الإخوانى التقليدى لسيرة جمال عبد الناصر، وبدا ذلك للمفارقة كتكريم إضافى لاسم جمال عبدالناصر، فالخيبة التى تلحق بحكم مرسى تستدعى بالمقابل ألق جمال عبد الناصر, وتزيد من توهج صورته فى العيون التواقة لهزيمة حكم الثورة المضادة، ثم إن تكريم الشاذلى مع السادات انطوى على تناقض مرئى للعيان، فالشاذلى ابن العسكرية المصرية الوطنية اختلف مع السادات فى إدارة حرب 1973، واختلف مع خيانة السادات لدم الشهداء وثمار النصر العسكرى، وعارض بشدة معاهدة السلام التى عقدها السادات، ورعاها من بعده مبارك ومرسى، وكان الشاذلى عدوا للسياسة الأمريكية التى ترعى مرسى وحكم الإخوان(!). وبالطبع، يدرك الجميع أن عبدالناصر قد مات كجسد، لكنه لم يتحول أبدا إلى جزء من ذكريات الماضى، بل تحول اسمه إلى شفرة وكود رمزى، فالمعادون له والمنقلبون عليه هم السادات بعد حرب 1973، ثم مبارك طيلة عهده البليد الراكد، وقد انتهى الانقلاب على ثورة عبد الناصر إلى خراب مصر وخروجها من سباق التاريخ، ثم أتت الثورة الشعبية الأخيرة كانقلاب على المنقلبين، وكرغبة جارفة فى استعادة ووصل ما انقطع، ورفد مشروع ثورة يوليو بحيوية وشباب ثورة يناير 2011، وهو ما يفتح طريقا جديدا ناميا فى الساحة المصرية الآن، يركز على قضايا الاستقلال الوطنى والعدالة الاجتماعية، وإعادة بناء تحالف ثورى يسترد الثورة للشعب، ويبنى التفاهمات والائتلافات فى خانة اليسار والوسط الاجتماعى، ويضم ميولا قومية ناصرية ويسارية وليبرالية اجتماعية، بل وإسلامية على طريقة أبوالفتوح ورفاقه، ويجمعها تقارب متزايد فى إعادة تقييم ورد اعتبار جمال عبد الناصر، ليس بدواعى تصحيح التاريخ فقط، بل بحوافز استرداد المستقبل. ؟؟؟؟ نشر بالعدد 617 بتاريخ 8/10/2012