هذا المقال ليس مجرد تحية لصحيفة جديدة تضيف إلى صفحات الفكر فى مصر، وإنما هو رصد لزمن جديد فى التفكير المصرى الذى اعتاد كثيرا على الأخبار التعيسة، وزادت مقاومته بل واحتجاجه على كل من يتحدث عن السعادة. والفرضية التى أطرحها هنا أن "الشروق" لم تكن لتظهر بالطريقة التى ظهرت بها، والثوب الذى أخذت قياسه، ما لم يكن ذلك جزءا من اتجاه، وعلامة على طريق سار فيه ناس من قبل ومهدوا له. وما جرى هو أن الصحيفة باتت جزءا من عملية صعود فى الثقافة المصرية الجادة والتى باتت أكثر مقاومة لكل ما هو سهل، وأكثر رفضا لكل ما هو تافه، وأكثر تجنبا لكل ما هو قائم على التفاهة والإثارة. أعرف أن مثل هذا التقييم لا يعجب أحدا، وسوف يأتى النقد أقسى ممن تصوروا أن صحافة الإثارة والشعارات والحناجر الزاعقة قد جاءت لمصر لكى تبقى إلى الأبد. ولكن الزمن الجديد جاء بضوء لا تخطئه عين، ولا يظهر ذلك فى تراجع توزيع الصحف القائمة على معادلات الجنس والدين والأحلام والعفاريت والجان وخلطات حسن البنا مع ميشيل عفلق وفوقهما لمسات من سيد قطب، ولكن جاء معه مولد صحف جديدة ليس فيها إلا الجدية فى التعامل مع القارئ وفى التعامل مع أحداث الوطن. والمدهش أن الصحافة هذه المرة ممتدة إلى التلفزيون حيث انتزعت القنوات الخاصة والمستقلة ببرامجها السياسية والاجتماعية عرش الزمن من قناة الجزيرة، ووصل الأمر إلى السينما حينما بلغت أعداد الأفلام 47 فيلما هذا العام، لم تكن كلها كما فقط بل كان فيها من النوع ما يدفع الناس إلى المسارح لكى تشهد وتفكر. خلفية الموضوع معروفة حيث كان البكاء ذائعا أن مصر فقدت ريادتها الثقافية إلى الأبد، وجاء ذلك من طائفة الندابين فى الداخل وهم المتخصصين فى صحافة وثقافة لطم الخدود، وجاءت من هؤلاء فى الخارج الذين أعلنوا الوفاة "لدور مصر الإقليمى". وكان فى إعلان الوفاة مبالغة كبرى حيث كان المصريون الجادون يقدمون، ويهبون الكثير، لصحف وقنوات ومسارح عربية، ومع ذلك كان التردى الداخلى فيما قدمته الثقافة المصرية الرسمية والخاصة سببا فى الاعتقاد بسيادة زمن الغروب لمصر وأفكارها وثقافتها. وربما لا يوجد جديد فى أن تعترى أمة لحظات من الشك فى الذات، أو تسود ظنون فى القدرة، ولكن العلامة والبشارة تأتى دائما حيث طال الانتظار. المسألة الآن ليس خروج صحيفة جديدة جادة إلى النور، وإنما الحقيقة كامنة فى السؤال حول الضوء الذى تذهب إليه، والمدى الذى تذهب إليه "الجدية" فى الطرق على أبواب الحيرة ومفترقات الطرق التى طال الوقوف أمامها. وليس سرا على أحد أننا أضعنا أزمنة طويلة فى الغضب تارة، وفى الندب تارة، وفى البكاء على أعتاب التاريخ أوقات كثيرة؛ وحينما انتهت الحرب الباردة، وكشفت "العولمة" عن وجودها، وظهر السباق العالمى صعبا وموحشا كان الهروب الفكرى بوسائل شتى، وأحيانا عبقرية، هو السبيل لتجنب مسيرات مؤلمة. ولكن الألم هو ما يصهر الأمم ويظهر معدنها، ولا توجد طرق سهلة فى مسيرات التاريخ، ولم يحدث أن كان هناك فى زمن غذاء بالمجان، وجاء وقت للتفكير فى أن لكل شىء ثمن، ولكل أمر تكلفة، ولكل مسافة زمنها. وببساطة لا يوجد ما يسمى بحرق المراحل حيث لا تبقى مرحلة ولا يبقى منها إلا الحريق. وربما كان الترحيب واجبا بمولد "الشروق"، ولكنه ترحيب ليس لصحيفة قامت على أكتاف أصدقاء أعزاء، وإنما ما هو أكثر تحية لمولد مرحلة وزمن!!.