يستقى سعد مكاوى عنوان روايته الأثيرة «لا تسقنى وحدى» من تلك الأبيات للسهروردى الذى يتحول مع غيره من أعلام المتصوفة إلى شخصيات روائية تنسجم بشكل طبيعى فى أحداث عمله الفنى. ورغم غلاف طبعة دار الشروق التى أصدرت الرواية فى سلسلة «نصوص متميزة» التى تعيد نشر النادر أو المنسى من علامات الأدب العربى المكوّن من هذا العنوان الدال مع لوحة للدراويش المولوية متمايلين فى إيقاع طقسى فريد، فإنها ليست رواية تاريخية أو رواية تتخذ من الفكر الصوفى تكئة للاحتفاء بالزهد والتصوف والتوحد مع الذات الإلهية. لكنها رواية شديدة المعاصرة تصحب الصعيدى علاء الدين، أحد العاشقين أو «السالكين» نسبة إلى أهل الطريق، وملحن المواويل وجامع التراث وحافظه، فى رحلة بحث صوفى عن الجوهر. تبدو الرحلة ذاتها هى المبتغى، لكنها عبر صفحات الرواية التى لا تتجاوز مائة صفحة يصبح الجوهر هو الطريق نفسه، أى يصبح الأهم هو الرحلة وليس الوصول، إنها رؤية معاصرة للرحلة الصوفية التى تتشكل فى دوائر تنتهى الواحدة لتبدأ التالية فى دورة لا نهائية. رحلة «لا تسقنى وحدى» يخسر فيها البطل رفيق طريقه مروان هذا القانط اليائس ويتواصل فيها مع العديد من الشخصيات المعاصرة حتى وإن لبست ثوب التاريخ، فيلتقى عمر بن الفارض وشهاب الدين السهروردى ويقيم فى منزل برهان الدين الجعبرى الثائر المتصوف (الذى جمع بين لقبى شيخ القرّاء وذى الفنون) حيث تزوره فيه زوجته التى تذكرنا أحاديثها اللاذعة وعدم تقديرها لرحلة زوجها فى البحث عن الجوهر بامرأة سقراط، ويتقاطع علاء الدين مع أولى السطوة والنفوذ مثل نموذج امرأة الوزير التى تبحث فى أهل التصوف عن «واعظ خصوصى» وتريد أن يبنى لها الشيخ الجعبرى مسجدا «للذكرى وابتغاء مثوبة الله» حتى وإن كلفها هذا توعد علاء الدين والتخلص منه إذا رفض أداء دور الوسيط. يوظف إذن سعد مكاوى التراث للإشارة إلى قضايا معاشة ومعاصرة، يلتقط الشخصيات التاريخية وأقطاب الطريق وشعراء الصوفية ليبعثوا من جديد فى سرد متخيل لا يدخر شكلا من أشكال الإسقاط على الواقع. إذ تعكس الرواية التى نشرت فى 1985 وفى مواضع كثيرة رصد الكاتب لزمن التحولات الذى بدأ فى حقبة السبعينيات واستشراء الفساد، وهجرة العقول... ففى حوار رفيقى الطريق علاء الدين ومروان مع الشيخ الحكيم يسألهما عن وجهتهما، فيجيب علاء الدين «إلى أرض لا تسودها طفيليات تفترس حياة الأشجار المثمرة». ثم «تبسم العمق الهادئ فى نظرة الشيخ» ليقول: «أعلم أن الذئاب انتشرت فى أرضكما إلى عمق الجنوب وأعلنت هنالك الأعياد، وترامى الفساد بعنفوانه، وزحف بشريعته حتى صارت له السيطرة الكاملة على الحياة، لكنى أعلم أيضا أن لا سبيل إلا الاقتحام فى المواجهة بغير طاقة روحية فوق العادة». ويشير القاص والروائى محمد جبريل فى مقال بحثى عن سعد مكاوى إلى الدور الذى لعبه الكاتب فى توظيف التاريخ فى أعماله ولم يلق حق قدره: « فإن معطيات سعد مكاوى فى الرواية التاريخية، روايته الأهم «السائرون نياما»، على وجه التحديد، كانت هى الحادى الذى مضت من ورائه محاولات الأجيال التالية لتوظيف التراث. لم يكن الأمر مجرد حنين إلى أزمنة جميلة، ولا استعادة ملامح من تراثنا القومى والوطنى، بل كان، وبوضوح، توظيف الحادثة التاريخية، أو الشخصية التاريخية، فى الإشارة». فقد نشأ الكاتب سعد مكاوى (1916 1985) فى بيئة صوفية فى قرية الدلاتون بمحافظة المنوفية لكنه تعامل مع الصوفية فى نسق حداثى، لم يرى فيها مجرد الاعتزال عن الدنيا طمعا فى العزلة مع الله، بل تواصل وبحث عن الجوهر فى كل شىء جوهر الجمال وجوهر الإسلام وجوهر الحب. يتمسك علاء الدين بالبحث عن الجوهر فيقول: «مواويلى لا تخدم غير الحقيقة وحدها»، تماما مثلما يستمسك الأديب سعد مكاوى بالبحث عن حقيقة التصوف، إذ يقول فى حوار أجراه مع الكاتب الراحل عبدالعال الحمامصى: «كان أبى من طبقة المتصوفة، التى أخذت روح التصوف الحقيقى فى معناه الكلى ليس التصوف فى صورته الشائعة الذى يفر من الواقع، بل الذى ينظر إلى الواقع من خلال رؤية كلية تنفذ إلى الماوراء، لدرجة أنها قد تربط المعنى الإنسانى الكلى وحقائق الوجود الأصلية بالمصير الإنسانى». لا تسقنى وحدى، بل كل العطاشى، فهى دعوة للتواصل «أين أنا على الطريق ووجدانى لا يزال عطشان إلى أن يتكامل فأكون إنسانا حقا»، يؤكدها مكاوى على لسان السهروردى «يا عشاق الجمال تواصلوا، فلا حل غير الدفاع المستميت عن حصن الجمال الصامد ضد انحطاط الهمم واستشراء النفاق».