قديمًا كان يرفع «سيزيف» الصخرة من أسفل الجبل إلى أعلاه، فإذا وصلت القمة تدحرجت إلى الوادي، فيعود لرفعها إلى القمة مجددًا، ويظل هكذا إلى الأبد، كعقاب له على خداع إله الموت «ثاناتوس». الأسطورة الإغريقية ستقفز إلى ذهنك، وأنت تشاهد العشرات من عمال وعاملات النظافة، وهم يمارسون عملهم، أمام التجمع الأول ومدينة الرحاب بالقاهرة الجديدة، ليس بسبب كونهم عمال نظافة، بل لأن هذه المهنة غير مبررة في هذا المكان تحديدًا فالمكان صحراوي ومحاط بمناطق سكنية تحت الإنشاء، وكلما تم كسح التراب من على الطريق عاد مجددًا، ويظلون هكذا حتى انتهاء يوم العمل.
قد يختلفون عن «سيزيف» في أنهم يتقاضون «15 جنيهًا» يوميًّا، وهي أحد العوامل المغرية، للاستمرار في هذه المهنة، حتى لو كانت هذه الوظيفة ستسبب لهم أضرارًا في بلدهم الشرقية، لو رآهم أحد، وكان هذا أحد أسباب ارتداء السيدات منهن، النقاب أثناء العمل، بالإضافة لحمايتهم من الشمس والغبار، ثم يخلعونه في طريق العودة.
أم أحمد... «تخدم في الشوارع ولا تخدم في البيوت»
على بعد حوالي 100 متر من بوابة «مدينة الرحاب» بالقاهرة الجديدة، تقف «أم أحمد» في منتصف الشارع ترتدي النقاب، وتمسك بالمقشة، وتعمل على إزالة التراب من منتصف الطريق لجانبيه، ثم يعود التراب مجددًا بفعل الهواء فتعاود «أم أحمد» نفس العملية من جديد، وكان ردها «ماحنا بقى شغلتنا مانخليش التراب يتراكم».
تأخذ ابنتها معها إلى العمل يوميًّا من «الشرقية إلى القاهرة الجديدة»، "ولو بنتي الكبيرة ماجتش عشان أي ظروف، عندي بنت تانية عندها 13 سنة تيجي معايا".
رفضت أم أحمد التصوير «حتى لا يراها أحد من بلدها»، وبضيق شديد حاولت أن تبعد ابنتها الصغيرة عن الصورة قائلة ل (بوابة الشروق)، "احنا لا عايزين مشاكل في البلد ولا حد يعرف احنا بنشتغل ايه".
كل ما تعرفه أم أحمد ومن معها من عاملات وعاملين النظافة أنهم تابعين لشركة «Care Service» للنظافة، ولكن علاقتهم المباشرة والوحيدة مع «مقاول»، "هو اللي خلانا نشتغل هنا وبيحاسبنا ب450 جنيهًا في الشهر"، بحسب ما قالته.
لم تظهر أم أحمد أي ضيق تجاه ال«450 جنيه» في الشهر، قائلة: "رضا ويكفوا.. أحسن من خدمة البيوت، أخدم في الشارع وماخدمش في بيت أبدًا عشان ماحدش يتهمني أول واحدة لو حاجة ضاعت".
عبد المنعم طرطور... 3 سنوات في نفس المكان من أجل «15 جنيهًا»
عبد المنعم السيد يوسف طرطور، أب في الخمسينات من عمره، ل5 أبناء في مراحل التعليم المختلفة، يعمل في شركة النظافة نفسها التي تتبع جهاز التجمع الأول، بحسب كلامه.
3 سنوات متتالية، يأتي عم عبد المنعم يوميًّا من مركز بلبيس بالشرقية إلى القاهرة، من أجل «15 جنيهًا» في اليوم، قائلًا ل «بوابة الشروق»: "بنشتغل باليومية، وآخر كل يوم ناخد 15 جنيه، وأهو ربنا موجود ومش لاقيين غيرهم"، مشيرًا إلى أن بجانب راتب شركة النظافة، يحصل على 270 جنية شهريًّا من الضمان الاجتماعي.
«احنا راضيين بقليله، وبنيجي كل يوم هنا عشان محتاجين، وأهو هنا أحسن من مكان تاني ومرتاحين نفسيًّا»، هذه الكلمات القليلة كان عبد المنعم طرطور يكررها كثيرًا أثناء حديثه، ومثل غيره من عاملين وعاملات النظافة في المنطقة، رفض التصوير، خوفًا من أي ضرر عليهم "وعلى أكل عيشهم".
مدام ليلى... «الرحاب ليها ناسها ومابندخلهاش»
مدام ليلى، إحدى عاملات النظافة، تعمل منذ ما يقرب من عام في نفس المنطقة وهي ترتدي «النقاب»، من أجل حمايتها من الشمس والغبار، وتخلعه بعد أن تنتهي فترة عملها، مؤكدة أنها لا تخاف من أحد في بلدها، "فاللي مش عارفين بنشتغل إيه، عارفين اننا بنجري على أكل عيشنا".
ليلى مطلقة، تأتي يوميًّا من مركز أبو حماد بالشرقية، ولا تعرف عن عملها سوى أنها عاملة نظافة، لا تعرف حتى اسم المقاول الذي أتى بهم إلى القاهرة، أو الشركة التي تقبض منها راتبها، وبارتباك شديد وتحفظ في الكلام، حاولت أن تتحدث عن حالتها المادية والمعيشية، رافضة التصوير قائلة "عشان الشركة هيتزاعقوا معانا".
تبدأ ليلى حكايتها، عن عملها وراتبها، قائلة: "اللي رماك ع المر اللي أمر منه، وكنا لقينا شغلانة تانية وماشتغلناش؟!"، مؤكدة أنهم لا يسألون المارة عن نقود حيث قالت: "الناس بتدينا بالكتير 2 جنيه في اليوم، وممكن شهر كامل ماناخدش حاجة"، مضيفة أنهم لا يحتاجون أي مساعدة من أحد ولا يطلبون من سكان مدينة الرحاب، التي يعملون أمام بواباتها، قائلة: "الرحاب ليها ناسها ومابندخلهاش".
عبد الله... عامل نظافة إلى أن يحصل على بطاقة شخصية
أما عبد الله، 15 سنة، فكانت له أسباب مختلفة عن قبول العمل هنا لخصها في قوله :"لما هعمل البطاقة هروح أشتغل في مكان تاني"، فعام واحد فقط يفصل بين عبد الله وبين هذه المهنة، التي اضطر إليها بسبب عدم وجود «بطاقة»، حسب قوله.
عبد الله يأتي يوميًّا من أجل 450 جنيهًا، المبلغ الذي لا يكفي حاجاته ومتطلباته وأهله في الشرقية، ولكنه يرد "مابيعملوش حاجة لكن هنعمل ايه بقى؟!"، مؤكدًا أنهم لا يحصلون على مساعدة من المارة بالسيارات إلا قليلًا ولكنهم لا يطلبون من أحد.