تعيش محافظة بورسعيد، معاناة حقيقية، ولا تعرف متى ستنتهى. المعاناة المؤلمة، تبدأ تفاصيلها اليومية، مع إغلاق المدارس والمصالح الحكومية، أبوابها لمشاركة المدرسين، والطلاب، والموظفين فى المظاهرات، فضلا عن اختفاء الشرطة بشكل ملحوظ، من الشوارع. «الشروق» طافت أرجاء المدينة «الباسلة»، قضت يوما، لرصد ما تبقى من مظاهر الحياة، ورصدت إلى أى مدى تتدهور الأمور بشكل مخيف ومتسارع، على «الغنى والفقير» على حد سواء.
اعتاد موظفو المصالح الحكومية، على الذهاب حيث تنطلق المسيرات، وتوجد المظاهرات. فمع الساعات الأولى من بدء الدوام، يتوافدون على أعمالهم، ليس من أجل العمل، ولكن للتوقيع فى كشف الحضور، مدعومين بالضغط الذى يمارس عليهم، من قبل المئات من شباب الالتراس، الذين يضغطون عليهم، لترك مكاتبهم، والنزول للشارع للمشاركة فى العصيان المدنى.
«يا أهالينا يا أهلينا.. يا أهلينا ضموا علينا».. هكذا يهتف التراس جرين إيجلز، والعشرات من الشباب غير المنتمين لتيارات سياسية، وبعض أسر الضحايا الذين سقطوا أمام سجن بورسعيد فى 26 يناير الماضى، فى الجميع ليحفزهم على المشاركة. ويطالبوهم بالنزول من مكاتبهم منذ الثامنة والنصف صباحا، حيث تتحرك المسيرات من أماكن يتم الاتفاق عليها ليلا.
تطوف المسيرات التى لا يتجاوز عددها فى البداية مئات الشباب لتتحول لمسيرات حاشدة بعد نزول الموظفين وإغلاق مصالحهم الحكومية، بينما تتجه المسيرات جميعها إلى مبنى ديوان المحافظة، حيث يرابط المئات من الشباب وأهالى أسر الضحايا، والمتهمين فى القضية، أمام مبنى المحافظة، حتى نهاية اليوم، معلنين رفضهم الرحيل لحين الاستجابة لمطالبهم، وهم يهتفون، «بسقوط الرئيس وجماعته».
أغلقت غالبية المدارس أبوابها أمام الطلاب، فالمدرسون يشاركون فى التظاهرات، والطلاب يحملون الميكروفونات للهتاف ضد الرئيس والنظام، وسط اتهامات غاضبة، ب«الوقوف وراء مقتل أبنائهم أمام السجن العمومى عقب النطق بالحكم بواسطة القناصة التى اعتلت أسطح العقارات».
لافتة كبيرة حملها عدد من الشباب مكتوب عليها «مبارك كان يقتل القتيل، ويمشى فى جنازته، ومرسى قتل القتيل وقتل اللى ماشى فى جنازته»، هكذا يرددونها بصراحة، منددين «بحكم الإخوان» وتجاهل الرئاسة لمطالب الشعب البوسعيدى، رافضين فى الوقت نفسه الحديث عن تعويضات مالية دون النظر لباقى المطالب.
مسيرة حاشدة تحركت صباح الخميس الماضى، من أمام قسم العرب باتجاه مبنى المحافظة، ومرت بشارع محمد على، بينما فتحت قوات الجيش الطريق الرئيسى، استمر إغلاق الشوارع الجانبية والمواجهة للسجن، ليشير أحد أعضاء التراس المصرى بيده للسجن ويقول مستنكرا: «هى دى مقبرة البورسعيدية».
المسيرات التى تتحرك فى العديد من المناطق بتوقيتات متزامنة لم تمنع بعض المواطنين من التعايش بشكل طبيعى مع ما يحدث.
الشرطة غائبة عن الشارع باستثناء ساعات قليلة يظهر فيها بعض رجال المرور، الذين سرعان ما يغادرون أماكنهم فور سماعهم لأصوات المتظاهرين، فى المناطق المحيطة لا يوجد الكثير منهم بأقسام الشرطة التى تمتنع أحيانا عن تحرير محاضر للمواطنين بحسب تأكيدات عدد من الاهالى ل«الشروق».
قوات الجيش أصبحت هى المؤمن لكل المنشآت الحيوية من بنوك ومبنى المحافظة ومديرية الامن والاستثمار والميناء، بالإضافة إلى منطقة الإفراج الجمركى التى تركها الموظفون للشرطة العسكرية، بينما كانت تقوم قوات الجيش بإيقاف سيارة تقوم بتشغيل الاغانى الوطنية أمام مبنى المحافظة منها «يا رايح بورسعيد» وغيرها من الاغانى التى تتحدث عن مدن القناة وقوتها خلال عدوان 1956.
غالبية المسيرات التى تخرج من بورسعيد مسيرات نسائية تشارك فيها الموظفات والمعلمات لإيصال رسالتهن، يتحركن كل يوم للانضمام للاعتصام القائم أمام المحافظة، بينما يطوف الشباب شوارع المحافظة، لدعوة من بالمنازل، للنزول إلى الشارع لمشاركتهم، فى المطالبة بحقوقهم.
محافظ بورسعيد اللواء أحمد عبدالله، لم يذهب إلى مكتبه بديوان عام المحافظة منذ بداية الاعتصام أمامه، ونقل الحارس المرابط بباب استراحة المحافظ بالمدينة: «المحافظ ليس موجودا ولا يأتى إليها»، بينما اكتفى ضباط الشرطة بالوجود داخل مديرية الأمن الملاصقة لمبنى المحافظة.
«مرسى عاوز يعمل فيش وتشبيه للشهداء»، عبارة يقولها محمد الذى توفى، زوج شقيقته خلال إطلاق النار أمام السجن، ويوضح: «أن محمود زوج شقيقته كان يقوم بشراء الدواء لابنته المريضة ومقيم لدى حماه، سقط على باب منزله فى الخامسة مساء برصاص القناصة الذين استهدفوه من أعلى سطح العقارات المجاورة، فى ذات اليوم الذى أطلق فيه الرصاص العشوائى.
لافتة كبيرة طبعتها إحدى الصيدليات الشهيرة بها صور جميع ضحايا الاحداث الأخيرة وضعت فى مواجهة مبنى المحافظة وإلى جوارها العديد من اللافتات التى طبعتها أسر الضحايا لأبنائهم، مدون عليها تاريخ الوفاة، بينما يقف الأهالى أمام الصور لقراءة الفاتحة على أرواحهم بين الحين الآخر.
أحد الشباب قام بانتزاع صورته من وسط صور الضحايا بعدما وضعت عن طريق الخطأ، فهو أصيب فقط فى الاحداث لكنه لم يقتل، لينطق أحد شباب الالتراس الموجودين «يا ريتهم كلهم يرجعوا واحنا نرفع الصور دى من هنا، ونروح».
فى محيط الاعتصام شد وجذب، بين الكبار والشباب، أعلام دولة بورسعيد كما يعرفها الالتراس تثير غضب الكبار، الذى ينظرون لرافعى هذه الاعلام بأنهم يأتون بأفعال صبيانية لا تتناسب مع الحدث، بينما يشتد الخلاف بين الشباب والكبار عندما يقف أحدهم هاتفا «الجيش والشعب إيد واحدة».
وقف نورالدين أحد الشباب وسط المتظاهرين يطالبهم بعدم الهتاف للجيش، أو مطالبته بالعودة للحكم مرة أخرى على حساب الاخوان، مطالبهم فى التفكير بعيدا عن الحلول النمطية بينما وجه له البعض اتهاما بأنه من خارج بورسعيد ومدسوس بينهم مما جعله يخرج بطاقته الشخصية المدون بها محل إقامته بمدينة بور فؤاد.
نورالدين، استفاض فى الشرح عما وقع له لزملائه الذين سقطوا فى أحداث محمد محمود ومجلس الوزراء وغيرها، أثناء الفترة التى تولى فيها المجلس العسكرى حكم البلاد، واستعمل العنف ضد المتظاهرين، وهى الرؤية التى أثارت تحفظ البعض.
تدخل المتحدث باسم التراس جرين إيجلز فى الحوار، وقال إن مطالبهم واضحة لا تقبل التجزئة وهى الافراج عن زملائهم المحبوسين والصادر بحقهم حكم بالإعدام والمحبوسين احتياطيا ولم يصدر بحقهم أحكام وأن يتم محاكمتهم محاكمة عادلة وليست سياسية من أجل إرضاء التراس الاهلى.
وأضاف أن المعتصمين أمام المحافظة لن يغادروا أماكنهم مقابل مبالغ مالية تصرف لأسر الشهداء، مشيرا إلى أن الرئاسة يجب عليها الاستجابة لجميع المطالب دون تباطؤ لأن الشعب البورسعيدى لن يسكت على ما يحدث والإخوان لم يعد لهم مكان فى المدينة.
أمام شارع التجارى الشهير، حيث محال الملابس وقف محمد كمال، صاحب أحد المحال متحدثا بلهجة غضب لأحد الشباب الذى طلب منه إغلاق محله المتقاطع مع شارع محمد على، حيث تمر المظاهرات، لكنه تمسك برأيه فى فتح المحل أسوة بباقى المحال الكبرى فى الشارع التى لم تغلق أبوابها سوى يومى الأحد والاثنين فقط.
يقول التاجر إنه لدي أقساطا والتزامات بالإضافة لحاجته للمال لكى ينفق على أسرته ويدفع أجر العاملين معه فى المحل، فرغم علمه بحالة الكساد الشديدة بحركة البيع والشراء بالمدينة منذ بداية الاحداث، لكنه فتح محله على أمل أن يأتى له زبائن ووقف ينادى على بضاعته.
فى ميدان المسلة بمدينة بورفؤاد كان يتظاهر العشرات من المعلمين والعاملين فى قطاع الحكومة، مطالبين بالقصاص لأبنائهم، وفور وصول ضابط من قوات الجيش تحدثوا معه معلنين أن مطلبهم الرئيسى القصاص لأبناء بورسعيد من الذين أطلقوا عليهم النار، وليست مطالب مادية كما تصدر التصريحات الرسمية، لتنطلق الهتافات «الجيش والشعب إيد واحدة».