أعتقد أن الوقت قد حان كى يعاد فتح القضية الفلسطينية بدلا من «الواقعية» السائدة، كون الخطاب الذى ألقاه بنيامين نتنياهو فى تعليقه على خطاب الرئيس الأمريكى أوباما أو رده ينطوى بشكل واضح وبمنتهى الصراحة على تصميم إجهاض القضية، بما تنطوى عليها من حقوق تاريخية وقومية وشرعية دولية، إضافة كونها متجذرة فى وجدان وقناعات طلائع وجماهير الأمة العربية واحتضان معظم شعوب العالم وجدانيا لها. أنا مدرك أن رد الفعل الأولى لمن يدعون الواقعية ولتدليل على وعيهم يسمونها «البراجماتية»، فإن الواقعية تتجه إذا استمرت بثقافتها السياسية الراهنة إلى تدرج متسارع فى أقفالها، وبالتالى تشكل محاولة إلغاء الذاكرة الجماعية لشعب فلسطين، إضافة إلى إلغاء حقوقه التى هى بموجب كل قرارات الأممالمتحدة غير قابلة للتصرف. ومما زاد «الطين بله» أن ترحيب الإدارة الأمريكية بما ورد فى خطاب رئيس حكومة إسرائيل ووصفه أنه انطوى على خطوة «إيجابية» و«واعدة»، يعنى أن التفهم كان متعمدا بردع حلفاء إسرائيل مرحليا والاكتفاء على الأقل مرحليا بهذه «الهفوة اللفظية» بغية امتصاص نقمة اللوبى الإسرائيلى وعدم تشويشه على أولويات الرئيس أوباما داخليا، والأوضاع الاقتصادية وتفاقم الأزمة المالية؛ ودوليا التركيز المباشر على محاربة طالبان أفغانستان وفرعها الرئيسى فى باكستان. ثم جاءت انتفاضة فئات رئيسية من الشعب الإيرانى والتى تدرج الرئيس أوباما فى التعامل معها بتباين مع خصومه المحافظين الجدد واليمين الجمهورى الذين وصفوه بأنه لا «يؤكد دوره كقائد العالم الحر». كل هذه العوامل تركت مثلث أوباما نتنياهو المرشد الأعلى آية الله على خامنئى يهيمن على الأجواء الإعلامية.. كون نتنياهو حاول جعل إيران «التحدى الأخطر» لدول «الاعتدال» فى المنطقة جاعلا من مأساة فلسطين ومركزيتها بمثابة موضوع قائم ولكنه خاضع لأولويات تجعل تأجيل معالجتها ضرورية والإيماء بكون هذا التأجيل مجرد أمر «مؤقت». كما حاول نتنياهو جعل التركيز على أولويات التحديات فى المنطقة ككل وخصوصا «مخاطر الطاقة النووية الإيرانية»، كون إسرائيل التى تحترف التحريض على إيران لإقناع المجتمع الدولى أنها لاعب أساسى فى المنطقة وبالتالى هى المرشحة لإيجاد آلية تنسيق لقوى «الاعتدال»، ومن ثم السعى لإخراج القضية الفلسطينية من كونها أولوية عربية ثابتة. قد يقال إن تخليا «مؤقتا» عن التركيز على أولوية قضية فلسطين لا يعنى تخليا عن قضية فلسطين، بما يعنى أن «الخطر الإيرانى» يستدعى اهتماما مماثلا وفى الوقت الراهن لا يصرفنا عن التزامنا الثابت لحقوق الشعب الفلسطينى. يستتبع هذا التخلى «المؤقت» لبعض قوى النظام الرسمى العربى أن يجابهه بتصميم على إعادة فتح القضية الفلسطينية برمتها. إذ إن خطاب نتنياهو تحايل على حقائق أهداف إسرائيل وسوقها وكأن فلسطين «دولة» وكأنه تنازل عن قناعاته العقائدية وأصبح متموضعا فى «وسط» الخريطة السياسية الإسرائيلية بين يمين ليبرمان ويسار باراك. والآن يعود باراك مرة ثانية فى غضون شهر إلى واشنطن كى يستعمل «اعتداله» فى خدمة السياسات المتزمتة والعنصرية والتى يسعى محور نتنياهو ليبرمان إلى تقليص «الضغط الأمريكى» على مطالبة إسرائيل تجميد المستوطنات والإقرار بحل «الدولتين». بمعنى آخر إيهود باراك مطالب من حكومته عرض السموم التوسعية العنصرية معسولا بمفردات قابلة لتخفيف ضغوطات محتملة، لكن ما يمكن وصفه ب«ضغط محتمل» لا يتعدى المطالبة وإن بإلحاح مجرد «تجميد المستوطنات» لا تفكيكها كما تمليه القرارات الدولية والقانون الدولى. من هذا المنطلق، على منظمة التحرير الفلسطينية والدول الأعضاء فى الجامعة العربية قبيل أى استئناف للتباحث أو الحوار أو التفاوض انتزاع اعتراف إسرائيل بكونها سلطة محتلة فى الأراضى المحتلة بعد يونيو 67، وإذا لم يتم تعريف إسرائيل لوجودها فى هذه الأرض كونها «محتلة» فلن يستقيم أى تفاوض.. كونها كما حصل منذ يونيو 67 تصرفت وكأن لديها حق الملكية لهذه الأرض وبالتالى هى التى تحدد وتملى الشروط كما فعلت منذ اتفاقيات أوسلو، إلى يومنا هذا. لذا، فبالإضافة إلى اكتفاء الإدارة الأمريكية بمطالبة إسرائيل تجميد الاستيطان فإن خطاب نتنياهو لفظ كلمة «دولة»، فاعتبرته الإدارة الأمريكية «خطوة» إيجابية، وافتعل اليمين الإسرائيلى حملة من شأنها أن ذكر دولة هو بمثابة «تنازل» مبدئى، رغم معرفة هذه الشريحة الحاكمة أن تعريف نتنياهو على «دولة» فلسطين المقرون بالشروط التعجيزية يفرغها من أى عنصر من عناصر السيادة كلها، وبالتالى تقييد الكيان المقترح بما يؤول إلى صلاحيات محض إدارية وبلدية.. وبالكاد!. الأخطر من هذا كله أن هذه «الدولة» ليست لها عاصمة فى قدسها، كونها «عاصمة أزلية أبدية» لإسرائيل بما يلغى أبسط مقومات «الدولة»، لذا تعمد نتنياهو تمرير كلمة «دولة» بشرط يجهض كل مفهوم يمنح صفة الدولة للشعب الفلسطينى، كما أن رئيس الوزراء الإسرائيلى لم يكتف بالتذاكى الوقح لكنه اعتقد أن باستطاعته إقناع الإدارة الأمريكية بأنه لبى طلبات الرئيس أوباما. صحيح أن الإدارة الأمريكية رحبت بكون نتنياهو لفظ كلمة «دولة»، إلا أنه ما كادت تتضح الشروط المكبلة والمجهضة لهذه الدولة حتى توقفت وإن مؤقتا المحادثات مع المبعوث للشرق الأوسط السيناتور جورج ميتشل، ومن ثم إيفاد إيهود باراك بمهمة تخديرية لاحتواء غضب عند صانعى القرار. فزيارة باراك هى عملية استباقية، ويستهدف دفع منظمة إيباك (اللوبى الإسرائيلى) تعبئة أنصار إسرائيل فى الكونجرس وجماعة المحافظين الجدد بغية تحريف أى إدانة وتمييع احتمالات الضغوط الغاضبة بحجة ضرورات «الأمن الإسرائيلى» والأخطار الإيرانية وتأجيل أية «مفاوضات» فى هذا الوقت، والاكتفاء بإعادة «مسيرة المفاوضات» مع السلطة الوطنية، إضافة إلى هذا الملف الذى يحمله باراك إلى واشنطن، فسوف يركز أن المرحلة الراهنة قد تركز على أولوية التفاوض مع سوريا، محاولا أن يستفيد من قرار الإدارة الأمريكية استعادة العلاقات مع سوريا على مستوى تعيين سفير. إلا أن ما هو أشد خطورة وبالتالى أكثر إيلاما، هو الاشتراط على «الدولة» الفلسطينية بعد امتثالها للشروط التعجيزية المشار إليها هو أن التفاوض فى هذا الموضوع لن يتم إلا إذا اعترف الفلسطينيون بإسرائيل كدولة يهودية، وحتى لا يكون أى التباس، فقد وضح نتنياهو المعنى لهذا التعريف بكون إسرائيل ليست مجرد دولة يهودية تشرع التمييز العنصرى ضد المواطنين العرب الإسرائيليين بل إن إسرائيل دولة للشعب اليهودى. إن أخطر ما ينطوى عليه هذا التعريف هو إلغاء حق العودة للاجئين الفلسطينيين بشكل حاسم ومطلق، وتعزيز شرعية قانون حق العودة لليهود الموجودين فى كل أرجاء العالم، والجدير بالذكر أن هذا التوسع جاء بأكثر من مليون يهودى من دول الاتحاد السوفييتى السابق، ومنهم ليبرمان العنصرى الواضح ووزير الخارجية لإسرائيل والمستوطن فى إحدى المستعمرات المزروعة فى الضفة الغربية. فإلغاء حق العودة وتفعيل قانون العودة إذا لم يجابه بحسم ويقاوم بصدق ودون مراوغة سيكون ضربة قاضية لفلسطين كقضية. هذا قليل من كثير، فالتزوير للحقائق والتشويه لثقافة المقاومة الفلسطينية وقوى الممانعة العربية ومن ثم ادعاء نتنياهو كون إسرائيل هى الضامنة «للاعتدال» فى المنطقة تتطلب المزيد من الدحض والتفنيد. إلا أن بدايات التصدى لصفاقة ما ورد فى خطاب نتنياهو صارت حاضرة فى الإعلام الأمريكى والإعلام الغربى إجمالا، ولكن هذا لا يكفى، بل يتطلب تعبئة شاملة لقدرات عربية متوافرة وإلى حد كبير لا يستفاد من خبرتها والتزاماتها وأهلية عناصرها، وطبعا يكون أداؤها أكثر قدرة إذا استعان صانعو القرار بآرائهم وعطائهم وهذا لم يحصل بما فيه الكفاية، بل إن الكثير من القرارات الصادرة وآخرها فى 24 يونيو، حيث كان بيان مؤتمر وزراء الخارجية العرب فى الجامعة العربية. فالبيان الذى صدر كرر السياسات السابقة المعلنة، خاصة المنبثقة عن مؤتمر القمة فى بيروت.. أى مبادرة السلام العربية والتى بعد سبع سنوات لم تؤل إلى تلبية أى من بنودها، مما دفع العاهل السعودى القول بأن هذه المبادرة لن تبقى إلى الأبد، معبرا عن الإرهاف السائد واستمرار العدوان الإسرائيلى بأشكال جديدة. صحيح أن البيان انطوى على مطالب ثابتة منذ زمن طويل إضافة إلى الترحيب بما تضمنه خطاب الرئيس باراك أوباما من عناصر إيجابية، وكذلك التزام الإدارة الأمريكية بتحقيق السلام العادل والشامل فى المنطقة على أساس حل الدولتين ثم الترحيب وانخراطها فى هذا الجهد فور توليها المسئولية، ثم الترحيب بالموقف الأمريكى الداعى إلى وقف الاستيطان فورا.. هذا الترحيب فى محله لكنه لا يرقى إلى مستوى التحدى الذى انطوى عليه خطاب نتنياهو. هذا النقص فى قدرة استيعاب اللحظة والفرصة كان واضحا كون الجامعة العربية تصرفت كجامعة الحكومات العربية بدلا من كونها جامعة دول بما تعنيه الدولة من حاكمية ومجتمع. فهموم الشعوب ومشاعرهم لم يؤخذ بعين الاعتبار بما فيه الكفاية، ولم يتم التصدى بالقدر المطلوب لفرض كلفة حادة على طبيعة الاستفزاز والتحيز العنصرى العدائى الذى شكل أهم مضامين خطاب نتنياهو، هذا النقص مرده أن الاستكبار السائد فى النظام العربى الرسمى يأبى الاستعانة بالإمكانات المتوافرة خاصة لدى الشعب الفلسطينى، أمثال وليد ورشيد الخالدى حنان عشراوى ومصطفى البرغوثى وشفيق الحوت، وغيرهم من الفلسطينيين الأساتذة مثل على جرباوى ونبيل قسيس والمئات بل الألوف من الخريجين الجدد فى الجامعات والناشطين فى مجالات حقوق الإنسان واتحادات المرأة.. هؤلاء جميعا يعملون فى العديد من المنظمات غير الحكومية ويمثلون ثروة فكرية وطاقة إعلامية قادرة للتصدى لمحاولات إسرائيل إلغاء فلسطين كقضية، كما باستطاعتهم إعادة فلسطين القضية كالتزام يحتضنه الوجدان العالمى؛ ومن ثم إعادة فتح القضية على مصراعيها، حتى لا تبقى فلسطين سجينة رطانة خريطة الطريق ومسيرات السلام وإدمان تذمر الحكومات العربية، وبقاء إسرائيل بمنأى عن المساءلة والمعاقبة واستمرار العجز فى ردعها عن تماديها فى إيجاد وقائع جديدة على الأرض. بديهيا، إن إغلاق ملف الحقوق الفلسطينية لا يجابه إلا بإعادة فتح ملف الحقوق الفلسطينية من جذورها، عندئذ تعود فلسطين مسئولية قومية للعرب وقضية جديرة بالاحتضان وجدانيا وعمليا ودوليا.