لعل ما تتعمده «إسرائيل» وخاصة رئيس حكومتها بنيامين نتنياهو هو ألا يكون هناك أى تباينٍ ناهيك عن أى خلاف ينتج من القمة الثلاثية المزمع عقدها فى 2 سبتمبر المقبل، بحيث يمكن أن تتحول دعوة نتنياهو إلى لقاء شهرى مع الرئيس محمود عباس لإخراج القمة الثلاثية إلى اجتماعات ثنائية، وإرضاء للرئيس أوباما قد يعلن نتنياهو أنه مستعد لتجميد الاستيطان فيما يسمى بالمستوطنات العشوائية واستمرار حق الاستيطان أو البناء فى المستوطنات الكبيرة التى يعتبر أنها صارت حقا ل«إسرائيل» بمعنى الملكية. هذه المعادلة التى يعمل نتنياهو على تسويقها بأن الرئيس عباس إذا اعترض فهو من يعطل المسيرة التفاوضية التى دعا إليها الرئيس أوباما. لذا فإن عودة البناء فى المستوطنات الكبيرة هو التنصل من التجميد الذى فيها، وبالتالى يخرج نتنياهو حكومته من أنها هى التى عطلت انطلاق المسيرة. من هذا المنظور يمكن ل«إسرائيل» أن تدعى أنها «تنازلت»، وبالتالى تكون قد مهدت بإرضاء الرئيس أوباما من جهة على الأقل لمرحلة لاحقة فى حين أن مصيدة أوسلو تصبح أكثر تضييقا على واقع التفاوض للفريق الفلسطينى. يتزامن هذا التكتيك «الإسرائيلي» مع حاجة ملحة للرئيس أوباما بأن يحقق إنجازا ما يسهل له ولحزبه المرحلة الانتقالية لما بعد الانتخابات النصفية بحيث يستطيع إما إبقاء أكثرية فى الكونجرس ومجلس الشيوخ أو على الأقل أن يخفف الأضرار، ويبدو أن هناك حاجة ملحة للإدارة الأمريكية بأن يكون هناك نجاحٌ ما خاصة وأن ما هو حاصل فى العراق من عجز أو صعوبة فائقة فى استقرار الحكم فيه بعد انسحاب نحو مائة ألف جندى أمريكى من العراق تنفيذا لوعد قام به بأن الحرب فى العراق كانت غير شرعية كما أن ما هو حاصل فى أفغانستان من صعوبات وتعقيدات يعمم انطباعا بأن الاستمرار فى مثل هذه النزاعات يجعل الرأى العام الأمريكى الذى يعانى من أزمات اقتصادية ومالية مصرّ على اختصار ما يعتبر أنها لم تعد أولويات مطلقة بالرغم من استمرار التحدى ووجود الجنرال باتريوس على رأس الحملة فى أفغانستان والذى يتمتع برصيد مقبول من جانب الرأى العام الأمريكى. إذن نستطيع الاستنتاج بأن هذه القمة التى نظمت بتسرع مفاجئ بحيث إن هناك تماسكا فى الحكومة «الإسرائيلية» فى حين أن الرئيس أبومازن وإن كان له الحق القانونى فى الدخول بالمحادثات المسماة خطأ مفاوضات إلا أنه ضعيف جدا فى شرعية التفويض الفاقد للمناعة التى تتطلبها الشرعية الفلسطينية كما تدل المعارضات المتكاثرة على التفاوض فى هكذا ظروف، كما أن التمثيل للفريق المفاوض الفلسطينى ناقص من حيث الشمولية المطلوبة والتى على الأقل من شأنها تقليص درجة انعدام التوازن بين الفريقين «المتفاوضين». ومن أجل ترسيخ القناعة بأن «إسرائيل» «تتنازل» فهى مهدت لحملة إعلامية وسياسية داخل الولاياتالمتحدة قام بها أمثال جورج ويل وإليوت إبرامز المستشار السابق فى مجلس الأمن القومى الأمريكى أثناء إدارة بوش. وكذلك السفير السابق لدى الأممالمتحدة جون بولتون وغيرهم من الذين يجعلون من المطالب الفلسطينية كما وصفها ويل فى واشنطن بوست «سراب»، وأن الموقف الفلسطينى تميز بنظره «بالصرامة وانعدام الليونة» بالرغم مما قال نتنياهو له أثناء رحلته الأخيرة إلى الكيان منذ أسبوعين إن «الضفة الغربية نسجت إطارا مشتركا مع السواحل حيث تتواجد النقاط المركزية للاقتصاد والسكان ومن هنا فإن الانسحاب من الضفة الغربية قد يؤدى إلى تعرض «إسرائيل» لهجمات صاروخية، وتوقع مثل هذا الانسحاب يتوقف إلى حد كبير على مدى تغير الأوضاع منذ عام 1974 بعد الخطاب الذى لاقى تجاوبا كبيرا للرئيس ياسر عرفات فى الأممالمتحدة». علينا أن ندرك أن المقالين اللذين كتبهما جورج ويل فى واشنطن بوست كانا على أثر زيارته ل «إسرائيل» مؤخرا ومقابلته لنتنياهو وبالتالى قد لا يكون هذا ترديدا لكلام نتنياهو، ولكن الخطاب السائد لرئيس الحكومة «الإسرائيلية» ولحزبة مع حلفائه من اليمينيين المتطرفين يتميز بأنه قد يكون متطابقا مع هذا التحليل. الأهم بنظرى أن هذين المقالين يجب أن يتم الاطلاع عليهما وعلى مضمونهما لأن ما يعبر عنه ويل هو إلى حد كبير نقاط الارتكاز «للخطة التفاوضية» التى ينوى نتنياهو القيام بها فى قمة واشنطن يوم 2 سبتمبر المقبل. وهذا يدل بنظرى على الحملة المسعورة لتبرير مسبق لما يدعيه «حقوق ل«إسرائيل»» والتى يقودها الإعلاميون والدبلوماسيون «الإسرائيليون» والتى تأتى بعد إيحاءات من «الإسرائيليين» وفى طليعتهم نتنياهو الذى يقود الفريق «الإسرائيلى» فى القمة المقبلة. إلا أن ال«نيويورك تايمز» بتاريخ 27 أغسطس نشرت مقالا لمارتن إنديك السفير الأمريكى السابق فى «إسرائيل» والمسئول على مركز صبان فى واشنطن الذى أراد التطمين بأن هناك عناصر تساعد على إنجاح أو عدم إفشال هذه القمة، كون الأسباب الآتية تنطوى على احتمال نجاح القمة بمعنى أولا أن العنف تقلص كثيرا فى الآونة الأخيرة وأن السلطة الفلسطينية صارت مسئولة عن منع الهجمات العنيفة على «الإسرائيليين» من أجل أن تثبت صدقيتها كشريك مفاوض، كما ألمح إلى أن حماس تمنع الهجمات ضد «إسرائيل» خوفا من التدخل «الإسرائيلى» الذى قد ينزعها من السلطة، إضافة إلى ذلك أن العمليات الاستيطانية قد تضاءلت بشكل مميز نتيجة التجميد لمدة عشرة أشهر، وأنه ليس هناك مشاريع بناء مساكن فى القدسالشرقية من بعد الضجة التى قام بها جو بايدن نائب الرئيس الأمريكى أثناء زيارته ل«إسرائيل» فى مارس الماضى، وأن هدم المنازل الفلسطينية فى القدسالشرقية أقل مما كان عليه مقارنة بالسنوات الأخيرة (!). هذه الازدواجية بين شراسة شروط نتنياهو وتعمد التخدير بين مَنْ هُم أقل شراسة بين الصهاينة من شأنه أن يجعل المفاوض الفلسطينى بين فكى كماشة ثنائية الشراسة والتخدير. صحيحٌ أن الرئيس محمود عباس لم يستطع منطقيا ألا يلبى دعوة الرئيس أوباما، ولكن إزاء ما هو حاصل من أجواء وشروط مسبقة ووقائع على الأرض وفقدان للتوازن فى القوى وعدم وجود سياسة موضوعية وحيادية مطلقة من قبل البيت الأبيض أعتقد أنه قد حان للرئيس عباس أن يؤكد ثوابت يجب أن تكون بديهية وهى أن الولاياتالمتحدة و«إسرائيل» يجب أن يعترفا بأن الأراضى المحتلة منذ 1967 هى محتلة وبالتالى خاضعة لاتفاقية جنيف الرابعة وبالتالى تجميد الاستيطان إن استؤنف أو لم يستأنف ويجب أن يقابله طلب من المفاوض الفلسطينى بتفكيك المستوطنات، وبأن الاكتفاء بتفكيك المستوطنات المسماة بالعشوائية لا يكفى مطلقا لاستمرار أى عمليات تفاوض وبالتالى لم يعد هناك مفر من التمسك بالثوابت أى الوحدة الوطنية الفلسطينية ومرجعية واحدة لمنظمة التحرير تشمل كل الفصائل الرئيسية فى المنظمة بما فيها حماس، وألا تحصر السلطة الوطنية الراهنة علاقاتها الاستشارية بالحكومات المطبعة مع «إسرائيل» وأن تسترجع منظمة التحرير استراتيجية ثقافة التحرير، هذا ليس من قبيل التمنى بل من مقتضيات الواقعية فى إطار الالتزام بقيام دولة فلسطينية ذات سيادة كاملة وعاصمتها القدس. ومعنى السيادة الكاملة أى سيادة على الأجواء والمياه الإقليمية وعلى الأرض. إن «الواقعيين» سوف يقولون إن هذا يندرج فى حيز المستحيل ولكن إذا كان لابد من تأمين حقوق الشعب الفلسطينى حتى فى حدها الأدنى والتى بإمكانها إعادة استقطاب التبنى العربى الكامل، بمعنى أن القضية الفلسطينية هى قضية قومية عربية عندئذٍ قد تكون هذه هى الواقعية المطلوبة، خاصة أن قرارات الأممالمتحدة تجعل القاعدة القانونية للحقوق الفلسطينية ضمانة للصيرورة إذا تحولت المحادثات الجارية إلى مفاوضات حقيقية، نقول هذا مرة ثانية إنه قد يحاول «الواقعيون الجدد» توصيف مثل هذا المنهج بأنه عديم الاطلاع على «حقائق الوضع» ولكن من دون إعادة الوحدة الوطنية ومرجعية موحدة للشعب الفلسطينى تفاوض من موقع القوة التى تمحضها الشرعية الدولية والالتزام العربى والاحتضان الوجدانى المتنامى فى العالم، عندئذٍ يستعيد الشعب الفلسطينى من خلال وحدته ووحدة مرجعيته قدرة التفاوض الحقيقى المنتج للحقوق، ويستعيد العرب قدرة عدم انفلات العدوان «الإسرائيلى» من العقاب. من دون هذه القفزة النوعية يستمر التآكل فى حقوق الفلسطينى الذى برهن على تمسكه الحاسم بوحدة أرضه وبحقوقه الإنسانية والوطنية وبعروبة انتمائه والذى يستعيد بالتالى قدرته على إخراج النظام العربى من التقاعس وعودة الالتزام، لأنه فى نهاية الأمر حرام فى مواجهتنا للمشروع الصهيونى أن يبقى الشعب الفلسطينى وحده المقاوم، لأن أى تآكل فى الحق الفلسطينى سوف يؤدى إلى مزيد من التآكل فى الحقوق العربية وهذا ما نشاهده اليوم من حالة التفكك والتشتيت داخل الكثير من مجتمعات الأمة العربية. ولعل دعوة الرئيس أوباما لزعماء الدولتين المطبعتين هو، بوعى أو من دون وعى، استباق لإبقاء «إسرائيل» من دون عقاب لعدوانها ولتمردها الدائم على الشرعية الدولية، هذا قليل من كثير إلا أن المطلوب من أبو مازن أن يكون رده العودة إلى شعبه وضمير الأمة بعد أن يلبى الدعوة التى جاءت كما وصفها «تحت شروط غير مقبولة». ليس مجرد تمن، بل هذا هو المخرج لعودة الحيوية إلى الالتزام.