إن عزوف الرئيس محمود عباس عن الترشيح لرئاسة السلطة، يشكل فرصة تتيح للقيادات الفلسطينية إعادة النظر بشكل جذرى فى مكامن الضعف عن «مسيرة السلام»، التى كانت قد انطلقت منذ اتفاقيات أوسلو ولغاية اليوم. إلا أن أى مراجعة نقدية يجب أن تنفذ إلى جذور الأسباب، التى آلت إلى الحالة الراهنة للشعب الفلسطينى ولحقوقه، التى رسختها القرارات والشرعية الدولية، والتى ساهمت اتفاقيات أوسلو، وما استتبعها من تداعيات جمة ومساومات مقيدة ووعود كاذبة ومراهنات تحولت إلى ارتهانات بذريعة انتهاج سياسات «واقعية». أجل كل هذه العوامل دلت على جهل أو تجاهل لما ينطوى عليه المشروع الصهيونى. وفى كلا الحالتين فإن القيادة الفلسطينية مطالبة بمراجعة تؤول إلى تراجعها عن ما ارتضته من مكبلات معنى فى إفقادها بوصلة المقاومة من جهة، وكونها مرجعية موثوقة للنضال من أجل التحرير. من هذا المنظور نستطيع أن نقول إن قرار عزوف الرئيس عباس عن الترشح يشكل إدانة واضحة وصريحة لمجمل السلوك الفلسطينى، حتى وإن لم يشمل خطابه ممارسة نقد الذات، مما يفتح الأبواب أمام القيادات الفلسطينية فرصة النفاذ إلى الأسباب الحقيقية، التى آلت بدورها إلى الاستنتاجات التى دفعت الرئيس عباس إلى أخذه قرار عدم الترشح لمنصب رئاسة السلطة. صحيح أن وضع الإدانة لإسرائيل ومجمل تعاملها مع الحقوق الوطنية الفلسطينية لا يندرج لغاية الآن على تصميم على ممارسة نقد الذات، والتى من شأنها أن تعيد لمنظمة التحرير حيوية تحررها من «التمكتب»، ولفتح إرثها النضالى الذى يؤهلها إلى استئناف دورها الطبيعى. هذا يعنى أن عزوف الرئيس عباس عن رئاسة السلطة يجب ألا يعنى أن بقاءه على رأس منظمة التحرير وفتح... كونه يبقى «لاعبا» رئيسيا كما تتوقع الإدارة الأمريكية أو تتمنى لكن لا مفر من التسليم بأن المعادلة المنبثقة عن إدانة مجمل السلوك الإسرائيلى يجب أن تنطوى على تعديلات جذرية فى دور كل من منظمة التحرير وفتح. فبدون هذه التعديلات المطلوب إجراؤها، سوف تبقى إسرائيل متحكمة ومنفردة بإدارة الصراع، بدون أى رادع لتمادى استباحتها وإمعانها فى التمدد الاستيطانى الهادف إلى تأكيد ملكيتها، بحيث تصبح المقاومة المشروعة مجرد تمرد على «شرعية» إسرائيل غير المعلنة حدودها. فإسرائيل تتعامل مع أى معارضة بها ناهيك عن مقاومة لاحتلالها وكأنهما مجرد حركات تمرد انفصالية عن إسرائيلها. **** وهنا مكامن الضعف الرئيسية فى ما ميز المباحثات بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية. نشير إلى هذه الحقائق، التى بقيت مغيبة لأن إحدى ركائز استئناف المقاومة بشتى تجلياتها العصيان المدنى، التفاوض، المظاهرات، اللجوء إلى الأممالمتحدة وفى حالة استنفاد هذه الخيارات تكون المقاومة المسلحة الخيار الذى شرعنة القانون الدولى وميثاق الأممالمتحدة.. لذلك فإن الأولوية هى العودة التى تمكن الدول العربية والمجتمع الدولى، خاصة الولاياتالمتحدة، من انتزاع اعتراف إسرائيل فى الأراضى الفلسطينيةالمحتلة، بأنها «محتلة». بدون هذا الانجاز وما ينطوى عليه من ممارسة ضغوط حاسمة، فسوف نبقى فى وضع يؤدى إلى مزيد من الاستيطان، مزيد من تهويد القدس، مزيد من خرق حقوق المواطنة لعرب إسرائيل، ومزيد من التلعثم «الدبلوماسى»، كما شاهدنا أثناء زيارة وزيرة الخارجية الأمريكية، مزيد من التفكك فى الحالة العربية، ومزيد من عدم الاحترام الذى يستحقه نضال وتضحيات الشعب الفلسطينى وسلامة الالتزام القومى العربى. أنه من المستغرب أن الإصرار على أن تعترف إسرائيل بكونها محتلة لم تلازم قيادى السلطة كل هذه المدة.. ولغاية الآن، عندما يشترط أبومازن أنه: «لن يستأنف المفاوضات إلا إذا أوقفت إسرائيل الاستيطان».. مما دفع نتنياهو أن يوحى للإدارة الأمريكية عشية زيارته لواشنطن استعداده لوقف مؤقت، لكن ليس فى القدس، كونها كما أكد أنها «ليست فلسطين». إذا كنا جادين فى تصميمنا على استعادة الأراضى الفلسطينيةالمحتلة وقيام دولة فلسطينية ذات سيادة وعاصمتها القدس، فقد حان الوقت أن تستعيد منظمة التحرير الفلسطينية شمولية تمثيلها، وبالتالى إعادة النظر لمؤسساتها، كى تعود مرجعية للكل الفلسطينى.. وأن نوصل إلى الإدارة الأمريكية أن يعيد العرب النظر فيما هو قائم من علاقات دبلوماسية أو تجارية.. (كما حدث فى إعادة تفعيل المقاطعة) وأن الإدارة الأمريكية يجب ألا تبقى رهينة الفيتو الذى يمارسه الكونجرس، والذى يقدم على إلغاء دور موضوعى لها فى الصراع العربى الإسرائيلى، والكف بدورها على التهديد باستعمال حق النقض فى كل إدانة، أو احتمال معاقبة للخروقات المتواصلة وارتكابها جرائم ضد الإنسانية، كما حصل فى الجمعية العامة للأمم المتحدة. على العرب أن يعتبروا تقرير جولدستون درسا لحقيقة أهداف وممارسات إسرائيل وأن الواقعية المطلوبة لاسترجاع وحدتهم حتى تعود قضية فلسطين إلى كونها قضية الوجدان العالمى.