ركزت الحملة الإسرائيلية التى مهدت للقاء نتنياهو مع الرئيس الأمريكى أوباما على أن إسرائيل مهددة لا بأمنها فحسب بل بوجودها. بمعنى أن الرئيس الأمريكى الملتزم بأمن إسرائيل عليه أن يترك لها استعمال ما ترتأيه من وسائل لهذه الغاية. كانت هذه المطالبة فى السابق تطرح بشكل ملتبس لكن فى عهد حكومة نتنياهو ليبرمان أصبحت المعادلة بين أمن إسرائيل والخطر الوجودى واضحة وبمنتهى الصراحة، ولإثبات أن أى وجه من أوجه التهديد لإسرائيل هو بمثابة تهديد لوجودها ولشعبها. هذا ما يفسر إلحاح نتنياهو بضرورة تسريع المجابهة مع إيران قبيل تمكنها من إنتاج قنبلة ذرية. الرئيس أوباما الذى اعتمد سياسة الحوار واستنفاذه قبيل اللجوء إلى المحاربة مع من يعتبروا خصوما للولايات المتحدة، لم يتجاوب مع رئيس حكومة إسرائيل لتحويل الخصومة القائمة كما التوتر إلى عداوة، بحيث يتم وقف الحوار والاقتراب من المجابهة التى تعمل إسرائيل على حصولها. إلا أن الرئيس أوباما أجاب أن الحوار هو الخيار الأول، وستعمل الإدارة الأمريكية على تكثيفه. علما بأن هذه الاستراتيجية لن تستمر إذا لم تؤول إلى نتائج متوخاة لغاية آخر عام 2009. وحتى إذا ما نجح الحوار ولم يؤد إلى نتائج متوخاة فهذا قد يؤدى إلى فرض مزيد من العقوبات الصارمة وموجبا أن الخصومة قد تتعزز لكن لا يعنى أن تتحول إلى عداوة كما تتمنى إسرائيل. كما أضاف الرئيس أوباما فى لقائه مع نتنياهو أن حل الدولتين إسرائيل وفلسطين هو المدخل المنطقى والمعقول لتنفيس الاحتقان فى المنطقة، مما يسهم فى استقرار المنطقة. وبرغم لجوء نتنياهو إلى ادعاء أنه مكلف لنقل مخاوف وقلق أنظمة عربية «معتدلة» فإن هذه المحاولة المتميزة بصفاتها هى مجرد اجترار لتحريض الأنظار عن عدوانها المتواصل على الشعب الفلسطينى ومن الالتزام العربى بأولوية ومركزية القضية الفلسطينية. لذا من المطلوب وبإلحاح أن يكف بعض المسئولين العرب عن إبلاغ الإدارة السابقة والحالية «مخاوفهم» من الخطر الإيرانى، لأنه بوعى أو دون وعى، يجعل التوجس منه أولوية بدلا من التهديد بالعدوان الدائم لإسرائيل على حقوق الشعب الفلسطينى والعرب عامة، وبالتالى تهميش وحدة الموقف العربى بما يفقد قرارات القمة بهذا الصدد أهميتها ويجعلها غير قابلة للتصديق. كما أن الرضوخ لصيغة «عرب الاعتدال وعرب التطرف» ثم التصرف بموجب صحتهما من شأنه أن يعمق الشرخ فى الجسم القومى العربى، بما يلغى أى فاعلية وبالتالى أى احترام «للاعتدال» أو «التطرف» كون هيبة العرب تكمن فى وحدتهم أو على الأقل فى صدقية وحدة مواقفهم. *** صحيح أن اللقاء جاء بنتائج متوقعة. لم يحصل التطابق الذى كان يتوخاه نتنياهو.. لكن بنفس الوقت بقى الالتزام الأمريكى بأمن إسرائيل وإن كان دون ربطه ب«الخطر الوجودى» الذى هو فى التعريف الإسرائيلى ترخيص مسبق لسلوكيات لاحقة بما تنطوى عليه من ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، كما حصل أثناء حربها على غزة، أو فرض حصارات فائقة بحيث أن تصبح ممارساتها بمثابة «الدفاع عن النفس»، وبالتالى رفض أو إدانة لاستئثارها تعريف «الأمن» بمفهومه الخاص. من هذا المنظور كان رد أوباما الاستمرار فى تأكيده على حل الدولتين ووقف عمليات الاستيطان. حاول نتنياهو أن يظهر كمتجاوب من حيث استعداده «استئناف المفاوضات» بهدف إنشاء «كيان فلسطينى» منحيا مصطلح «دولة». وعندما وجد نفسه مضطرا للتسليم بمصطلح «الدولة» اشترط أن تكون منزوعة السلاح غير مسموح لها عقد معاهدات ولا سيادة لها على الأجواء، بمعنى آخر دولة مفرغة من عناصر السيادة، مطوقة بسياج مقتضيات الأمن الإسرائيلى. بمعنى آخر دولة على غرار ترانسكى فى جنوب أفريقيا إبان نظام الأبارتيد. كما أن نتنياهو أصر على أن هذه «الدولة الفلسطينية» ما دام الرئيس الأمريكى مصرا على «دولة» عليها أن تعترف بإسرائيل دولة يهودية، بما يعنى دولة لليهود. وهذا بدوره يعنى إلغاء حق العودة نهائيا والإمعان فى سياسة وقوانين التمييز العنصرى على عرب إسرائيل، ناهيك عن مواصلة تهويد القدس واعتبارها عاصمة «أزلية وأبدية» لإسرائيل ومواصلة إجراءات هدم منازل السكان العربية فى القدسالشرقية استمرارا لتوسيع خريطة القدس لتشمل إضافات من أراضى الضفة الغربية. صحيح أن اللقاء جاء بما كان متوقعا، وأن بإمكان كل من الولاياتالمتحدة وإسرائيل أن يدحضا مقولة فشل اللقاء، إلا أنه وضع حدا لقدرة إسرائيل اللجوء إلى نفوذها فى الكونجرس لردع تمادى الرئيس أوباما ترجمة «دولة فلسطينية» دولة ذات سيادة كاملة، نظرا لشعبية الرئيس الأمريكى وانهماك الكونجرس الأمريكى بالأزمة المالية المتفاقمة والتركيز على أولويات الوضع الاقتصادى وتفرعاتها داخليا. *** إن عدم نجاح وعدم فشل اللقاء لا يعنى مطلقا نجاحا لما يسمى ب«الاعتدال العربى» وبالتالى حصر معالجة موضوع النزاع العربى الإسرائيلى برؤساء الدول التى لها علاقات دبلوماسية مع إسرائيل مصر والأردن أو حتى السلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس، الذى سيلتقى مع الرئيس أوباما فى مطلع الأسبوع، ثم مع الرئيس مبارك فى بداية شهر يونيو.. إذن فلقاءات الرئيس أوباما مع الحكام العرب التى ستركز على أن التشدد الإسرائيلى واستمرار التوطين وتهويد القدس تشكل إحراجا لهم ولسياسات «الاعتدال»، وبالتالى فسوف تكون مساهماتهم إخراج أنظمتهم من الإحراج، كى يستطيعوا تسويق إنجاز معادلة الدولتين مكافأة لسياسات التطبيع و«المفاوضات» المباشرة. هذا المنحى من شأنه دفع الرئيس أوباما باتجاه التأكيد على التزامه بخيار الدولتين، كما يؤكد أن استبعاد باقى الدول العربية «المعتدلة» منها و«المتطرفة» والاكتفاء بالأنظمة المتصالحة مع إسرائيل ينطوى على مخاطر رسوخ الانقسام وتبعثر جهود الأمة لتوحيد حركة المقاومة الفلسطينية وتحويل التباينات والاختلافات العربية إلى نزاعات وخلافات. من شأنه أيضا فقدان المناعة داخل الأوطان العربية، كما يحول مفهوم «الدولة» إلى مجرد شعار يعمل على تسويقه وتزويره.. لقد بات واضحا أن الإدارة الأمريكية رغم الوعود المتواصلة لن تحقق أى اختراق إذا لم تدفع حليفتها إسرائيل للاعتراف بكونها سلطة محتلة، وإذا استمرت وزارة الخارجية الأمريكية تصف عمليات الاستيطان وتكثيف المستوطنات بأنها «لا تساعد» بدلا من إدانتها كونها غير قانونية وخرقا لاتفاقات جنيف الرابعة. كما أن دعوة الرئيس أوباما إلى وقف الاستيطان وإزالة البؤر العشوائية تتسم بايجابية مبتورة. كلنا لاحظنا أن الترحيب العربى بها كدليل إيجابى، من شأنه أن يؤجل وحتى أن يلغى الحاجة الملحة لإزالة المستوطنات. لذا يتعين على الدبلوماسية والإعلام العربيين القيام بحملات تفند التزوير الإسرائيلى للحقائق، وتتصدى لمحاولات إسرائيل ترحيل القضية الفلسطينية. يتعين علينا وضع بعض الخصومات مع إيران ضمن إطارها الصحيح لا أن تتحول سياسة تناغم مع إسرائيل مما يمكنها من ترحيل وتهميش أولوية حق الشعب الفلسطينى فى تقرير مصيره. *** إن قيام الرئيس أوباما بأول زيارة لمصر دليل على مركزية مصر فى الأمة العربية ودورها المميز فى مرجعيتها التاريخية. هذا يدفعنا إلى الترحيب بزيارة الرئيس الأمريكى الأولى لكبرى الدول العربية. لكن بنفس الوقت وحيث إن الرئيس الأمريكى يرغب فى توجيه خطاب إلى العرب والعالم الإسلامى يوضح فيه بشكل أكثر تفصيلا ما يعنيه بحل عادل للنزاع العربى الإسرائيلى بما فيه قيام دولتى فلسطين وإسرائيل، فمن الحكمة بنظرى أن يلقى الخطاب الذى قد يكون تاريخيا من منبر جامعة الدول العربية حتى لا يسود انطباع أن التطبيع المسبق مع إسرائيل يشكل نقطة الانطلاق لشروط الاستقرار والسلام والتنمية للعرب وللعالم الإسلامى. إذا أعيد النظر فى الموقع الذى منه يلقى خطابه المنتظر، وألقى الخطاب من موقع يتوجه منه إلى الأمة العربية ومؤسساتها الرسمية، ستكون هذه إشارة إلى أن الولاياتالمتحدة تسعى للتعامل مع العرب موحدين لا كما فى العهود السابقة.. فالانفراد بكل منها أفرز غزوات غير شرعية كما حصل للعراق وتصنيفات مثل الاعتدال والتطرف والخلط بين الإرهاب والمقاومة. أجل إن رمزية إلقاء خطابه من موقع الجامعة العربية، وإن اختلف بعض العرب مع بعض ما يرد فى خطابه، تعنى اعترافه بمنبر موحد للعرب قد يعيد للولايات المتحدة ما تصورته وتوقعته جماهير العرب منها قيما وحضارة ورسالة ارتبطت بالرؤساء نيلسون وروزفلت وكينيدى ومع أوباما؟!.