فيما القوم متحلقون حول سرير رئيس السلطة الفلسطينية، ياسر عرفات، فى غرفته بمقر الرئاسة بالمقاطعة، وقد ساءتهم هزَّات رءوس الأطباء، بأن لا فائدة، تسلل رئيس كتلة «فتح» فى المجلس التشريعى، عزام الأحمد، منتحيا، ليهاتف محمود عباس (أبومازن)، ويحثه على ضرورة الحضور السريع إلى المقاطعة، حتى لا تفلت منه وراثة عرفات! علما بأن الأحمد كان ضمن من قاطعوا عباس، بعد استقالته، صيف 2003م، من رئاسة الوزارة، احتجاجا على وصف أعضاء «فتح» له بأنه «كرزاى فلسطين». الجميع قاطع عباس، إلا ثلاثة هم: نبيل عمرو، يحيى عاشور (حمدان)، أمين سر المجلس الثورى لفتح، وزهير المناصرة، أحد مساعدى خليل الوزير (أبوجهاد)، قبل استشهاد الأخير. كما كان غاضبا فى بيته، ينتظر قبول استقالته من كل مناصبه فى «منظمة التحرير» و«فتح»، وسُلطة الحكم الإدارى الذاتى المحدود؛ وإن لم يقبلها عرفات. خفَّ عباس إلى «المقاطعة»، فدخل إلى الصورة، وهو الوحيد من «القادة التاريخيين» لفتح داخل مناطق السلطة الفلسطينية، بعد أن قُتل بعض أولئك «القادة التاريخيين»، أمثال خليل الوزير، وصلاح خلف (أبوإياد)، وكمال عدوان، ومحمد يوسف النجار، فيما مات خالد الحسن (أبوالسعيد) على فراشه. فى الوقت الذى عارض القدومى، وأحمد غنيم (أبوماهر) «اتفاق أوسلو» سيئ الصيت، ورفضوا الدخول إلى مناطق الحكم الذاتى. هكذا، بدا عباس المؤهل الوحيد لخلافة عرفات فى مناصبه ال34!
تسارعت الأحداث، وتدهورت معها صحة عرفات، فى سرعة البرق، حتى فارق الحياة فى أحد مستشفيات باريس، على النحو المعروف، فى 11/11/2004 ولم يجد عباس صعوبة تُذكر فى وراثة عرفات فى مناصبه المذكورة.
●●● فى مارس 2005، دعا مدير المخابرات المصرية، اللواء عمر سليمان، كل الفصائل «الفدائية» الفلسطينية إلى مؤتمر يُعقد فى القاهرة، فخفت تلك الفصائل، متدفقة إلى القاهرة؛ وفيما حدد سليمان للفصائل مناقشة أمر هدنة مديدة مع إسرائيل، فإن معظم الفصائل أضافت بندا أهم إلى جدول أعمال المؤتمر، مؤداه تحرير «منظمة التحرير الفلسطينية»، وإعادة هيكلتها على أسس وطنية وديمقراطية.
طال النقاش داخل المؤتمر، وفجأة اقتحم المؤتمرون اللواء سليمان، وعاتبهم لأن القاهرة وعدت واشنطن بالتوصل إلى الهدنة، فى موعد أقصاه يوم الخميس، الموافق فى 17/3/2005، فلهث المؤتمرون، حتى أقروا بنديْ جدول أعمال المؤتمر، وخطف سليمان الاتفاق، وطار على متن طائرة خاصة إلى واشنطن!
●●●
فيما يخص «منظمة التحرير»، توصل المؤتمرون إلى تشكيل لجنة، تضم كل أعضاء اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، ورئيس المجلس الوطنى الفلسطينى، وكل الأمناء العامين للفصائل، على أن يترأس عباس هذه اللجنة، التى تجتمع دوريا مرة كل شهر، من أجل ترتيب البيت الفلسطينى، عبر «منظمة التحرير». الأمر الذى لم يحدث، وتفلت الكفيل المصرى من أمر الطلب إلى عباس كى يعقد تلك اللجنة. وتسارعت الأحداث وجرت الانتخابات التشريعية فى مناطق الحكم الذاتى (يناير 2006)، وفازت «حماس» بأغلبية مقاعد المجلس التشريعى، أولا لأن الناس هناك علقوا املهم فيمن أبلوا بلاء حسنا فى العمليات الاستشهادية أن يخلِّصوا مناطق الحكم الذاتى من فساد «فتح» غير المسبوق، وثانيا لأن الأخيرة خاضت تلك الانتخابات وهى ممزقة؛ حتى إن قائمتين فتحاويتين تجهزتا لخوض تلك الانتخابات، وفى ربع الساعة الأخير، أمكن التوصل إلى توحيد هاتين القائمتين، لكن الأمر أفلت من أيدى قادة «فتح» فى الانتخابات الفردية، حيث نزل 87 من أعضاء «فتح»، زيادة على قائمة «فتح» الرسمية، التى ضمت 66 مرشحا، فتفرقت أصوات مناصرى «فتح»، وفازت «حماس» بمعظم المقاعد الفردية، فيما لم تتقدم «حماس» على «فتح» فى الانتخابات النسبية، إلا بمقعد واحد فقط.
هنا صحا محازبو «فتح» على إفلات «السُلطة» من بين أيديهم، ورفضوا عرض «حماس» بتشكيل حكومة ائتلافية، حتى إن محمد دحلان أكد، فى خطاب جماهيرى، أن «من العار أن تشارك (فتح) فى حكومة مع (حماس)»!
حالت أجهزة أمن السلطة دون تمكين «حماس» من إدارة مناطق الحكم الذاتى فى الضفة الغربية وقطاع غزة، وتدفق شلال الدم فى صدامات دامية غير مبررة بين «فتح» و«حماس»، فى استمرار متقطع. وأخفقت كل محاولات إصلاح ذات البين بين الفصيلين، وآخرها «اتفاق مكة»، الذى عُقد برعاية ملك السعودية، عبد الله بن عبد العزيز، فى 8 فبراير 2007، على أن هذا الاتفاق لم يصمد طويلا، إلى أن أبلغ أحد قادة «فتح» قيادة «حماس» بأن الجنرال الأمريكى ديت دايتون اتفق مع أبرز قادة الأمن الوقائى فى السلطة الفلسطينية، كى ينفِّذ مذبحة لحماس، فتحركت الأخيرة لقطع الطريق على «المؤامرة»، وتم لحماس حسم الموقف فى قطاع غزة، ولكن بدم كثير. هكذا، بعد أن كانت «حماس» تبغى تصفية «الأمن الوقائى»، فإذا بحماس تفاجأ ببقية الأجهزة الأمنية فى قطاع غزة تطلب إلى «حماس» أن تتسلمها، ما وضع القطاع فى حضن «حماس»، على غير انتظار. وأخفقت كل محاولات المصالحة بين الطرفين، أساسا بفعل «الفيتو» الأمريكى الإسرائيلى على تلك المصالحة، ما جعل عباس لا يستطيع الموافقة على تلك المصالحة، حتى لو أراد، فما بالك وهو لا يريد!.
هكذا، غدا الانقسام الفلسطينى بين قطاع غزة بحكومة حماس، وبين الضفة الغربية فى حوزة «فتح» وحكومة إئتلافية شكلا. وكان ذاك الانقسام موازيا للانقسام على مدى الوطن العربى، بين الأنظمة المهاودة لواشنطن وبين الأنظمة الوطنية.
●●●
وقد تعرض قطاع غزة إلى هجمات عسكرية إسرائيلية متقطعة، تُوِّجت بهجمة «الرصاص المصبوب»، أواخر عام 2008، ومطلع عام 2009، بحيث مرت مناسبة انتهاء مدة رئيس السلطة محمود عباس، فى 9/1/2009، و«حماس» وغيرها من فصائل المقاومة الفلسطينية منقسمة فى الدفاع عن قطاع غزة فى وجه الهجمة الإسرائيلية. أما الأمر المستهجن فكان إقدام وزراء الخارجية العرب بالتمديد لعباس فى رئاسة السلطة!
بعد نحو أربعة أعوام، جددت إسرائيل اعتداءها على قطاع غزة، فى 14/11/2012، تحت اسم «عمود السحاب»، واستمر الاعتداء ثمانية أيام متصلة، مخلفا نحو 170 شهيدا، و2200 جريحا، وما يربو على 300 منزل دمرتها الطائرات والبوارج الإسرائيلية.
فما الذى هدف إليه «عمود السحاب»؟ وما الذى تحقق من هذه الأهداف؛ وما الذى خاب منها؟ وما الذى ينتظر مناطق الحكم الذاتى، والقضية الفلسطينية، خاصة أن «عمود السحاب» جاء بعد ما يسمى ب«الربيع العربى»؟!.