«فوق أبرق بنينا بيوتنا.. ولبن الإبل شرابنا وقوتنا.. والشاذلى الشريف ما يفوتنا.. والطنبور رقص بنوتنا».
هكذا يردد مصريو قرية «أبرق» التابعة لمدينة «الشلاتين» بفخر معبرين عن تراثهم وحضارتهم وعاداتهم وتقاليدهم، خاصة أن الشاذلى الشريف هو أهم مشايخهم الذى تم تخليده بضريح فى قرية «الجاهلية»، وهو ما يحكى عنه الشيخ حامد محمد عبدالله من قبيلة «العبابدة الحماداب» شيخ قرية «أبرق» وتوابعها، موضحا أهميته واحترام جميع سكان المنطقة لضريحه، والطنبور أداتهم الموسيقية الشهيرة التى يعزفون عليها أغانيهم التراثية الموروثة. «الشلاتين» التى لا يعرف الكثيرون عنها هى واحدة من 3 مدن كبيرة «حلايب» و«أبورماد» والثلاثة يقعون تحت اسم «حلايب وشلاتين» على الطرف الأفريقى للبحر الأحمر، وتعد الشلاتين أكبرهم من حيث المساحة وعدد القرى التابعة لها.
الشيخ حامد يبلغ من العمر، 105 أعوام، تزوج مرة واحدة رغم الفكرة المأخوذة عن القبائل، وقال ضاحكًا «نتجوز كتير ليه هما معيز» يجلس القرفصاء أمام داره الصغير المكون من طابق واحد فى قرية «الجاهلية» على حافة الجبل يستقبل زواره على حصيرة مفروشة على الأرض بينما يعرض عليهم الجلوس على مقاعد يحضرها خصيصا لهم، إلا أن الجلوس بجوار الشيخ الذى يوقره الجميع هناك بمثابة متعة لمتابعة حديثه عن حياته الثرية والمليئة بالأحداث التاريخية التى شارك هو شخصيا فيها ويحكى عنها لزواره بهدوء وفخر أبرزها مشاركته الجيش المصرى فى عمليات متعددة على الحدود أثناء عمله كحرس حدود.
طريق وعر
تقف الجبال شامخة طوال الطريق لمدينة «حلايب وشلاتين» المحاذى للبحر الأحمر، يضيق معها الطريق أحيانا وتلتف فى منحنيات صعبة ثم تستقيم مرة أخرى، صحراء ممتدة هى مدخل مدينة «الشلاتين» إلا انه على جانبى الطريق بعد عدد قليل من الكيلومترات تظهر المبانى التابعة لمؤسسات حكومية بداية من مجلس المدينة مرورا بالهيئة العامة للاستعلامات والإعلام، ومبنى هيئة البريد المصرى، وبالتوغل قليلا تصبح المبانى أكثر اختلافا حيث تنتشر المبانى المكونة من طابق واحد والتى تم بناؤها حديثا من الطوب الأحمر والخرسانة، تجاورها أخرى مبنية من الصفيح والقماش والكرتون تصطف فى صفوف طويلة موازية بعضها لبعض.
طريق قرى الجبل التابعة للشلاتين وأكبرها «أبرق» التى تتبعها قرى أصغر مثل «الجاهلية» و«وادى سعفه» و«وادى ديف» و«قنبيط» و«وادى صليب» الذى قطعة السيل مدمرا «الأسفلت» يدفع السيارات للسير على طرق جبلية معتمدين على غريزتهم وحفظهم للجبال، إلا أنهم يفضلون عدم التحرك بعد غياب الشمس لخطورة السفر فى الظلام حيث لا توجد أى أعمدة إنارة طوال الطريق، ويخدمهم فى ذلك نهاية أغلب نشاطاتهم عقب غروب الشمس حيث يعود الرعاة من الجبل، وأحيانا تطول غيبتهم بالأسبوع كما أوضح حسن الشاب العشرينى الشاب الذى يخرج للجبل ويعود مع نهاية الأسبوع، وأحيانا تطول إقامته إذا ما كان الخير وفيرا من الزرع.
منطقة ابرق التى تعد أكبر قرى الشلاتين حيث تضم الكثير من السكان المحليين من قبائل العبابدة، كما تتميز بالعيون والآبار والجبال التى تضم محميات طبيعية كبيرة ومميزة من حيث الحيوانات البرية النادرة والطيور الغريبة، ويأتى اليها السياح لقضاء سياحة «اليوم الواحد» كما تعرف، للتخيم والسفارى وهو ما جعل الحكومة تضع لافتة ضخمة تحث على منع الصيد بالمنطقة لأنها بمثابة جريمة يعاقب عليها القانون، بالإضافة إلى نقوشات لما قبل التاريخ وبقايا الآثار الفرعونية والرومانية فى منطقة «أبوسعفة»، والتى زراها عدد من الأمراء العرب أبرزهم الأمير نايف بن عبدالعزيز كما أكد الشيخ حامد.
يحكى حسن عن زواجه وأسرته الصغيرة التى يتركها فى رعاية عشيرته لحين عودته، ويقول ضاحكا عن زواجه رغم صغر سنه «أنا متزوج من كام سنة وده مش حالى لوحدى هنا الصبى يبلغ يقدر يتزوج ويرعى غنمه ويبقى عنده اسرة».
«الحمد الله على السيل والطريق يتعوض» هكذا قال الشيخ حامد عن وعورة الطريق بعد السيول التى غمرت «حلايب وشلاتين» وقطعت الطريق منذ أسابيع، واصفا إياه بالخير الذى تأخر كثيرا إلا أنه جاء بغزارة، تنهد وابتسم وتابع بهدوء رجل حكيم «كنا محرومين نشوف المياه بتجرى كده.. ولو ركزتوا كنتوا شفتوا الخير الأخضر.. الزرع اللى طلع طول الطريق وعلى الجبل يكفينا 7 سنين رعى يبقى نقول الحمدلله وربنا يزيد هى دى حياتنا الرعى والسيل والجبل».
الجبل والجراد
تختلف أشكال الجبال كما تختلف مكوناتها الصخرية، وتسمح للناظرين أن يتخيلوها كما يشاءون، إلا أن جبل «البطاطس» يعد الأشهر هناك حيث تتخذ التكوينات الصخرية أشكال بطاطس مختلفة الأحجام ومتراصة بجوار بعضها بعض، كما يوجد جبل «أبوطربوش» حيث توجد صخرة تقف على قمة الجبل بثبات يتخيل من ينظر لها أنها سوف تسقط ولكنها تقف هكذا منذ آلاف السنين، وهى تسميات محلية متداولة للجبال أطلقها السكان على الجبال للتعرف على الأماكن والطرق بسهولة.
هفيف قوى ليس لرياح وإنما يصدر من رفرفة أجنحة أسراب الجراد الذى هاجم جنوب مصر لأول مرة منذ سنوات وجعل السير نهارا على طريق «وادى الرحبة» أكثر صعوبة، حيث تعكس أجنحتها أشعة الشمس وتسطع لامعة ذهبية مشوشة على الرؤية وتصطدم بقوة بزجاج السيارة، مما يخلف آثارا يصعب التخلص منها، إلا أن السكان هناك يتناولون الجراد مشويا ولكن ليس بالكمية التى تقضى عليها وهو ما جعل الحكومة تتخذ الإجراءات لمكافحتها والقضاء عليها عقب إبلاغ المجلس المحلى لمدينة الشلاتين وزارة الزراعة لاتخاذ الإجراءات اللازمة ورش المبيدات للقضاء عليها.
«الجراد مكنش موجود قبل كده لأنه بييجى مع السيل عشان السيل بيجيب الخير والزرع الأخضر اللى الجراد بيظهر عشان ياكله ودى أول مرة نشوفه من سنين بالأسراب الكبيرة دى»، هكذا شرح الحاج حامد وجود الجراد هذا العام بهذه الأعداد الكبيرة، وتابع قائلا ضاحكا «الجراد عايز يقاسمنا الزرع الأخضر اللى بيطلع فى الأرض.. الزرع اللى سبحان الله سره عجيب لا ليه بذور إحنا بنرميها ولا نعرف من اين بيطلع عشان كده بعد السيل ده ناس كتير رجعت للجبل تانى بعد ما نزلت تعيش وتشتغل تحت رجعت عشان ترعى تانى مهى دى حياتنا رعى وجبل».
الأوراق الثبوتية
قرى فقيرة منتشرة على الجبال تضم أسرا تشكل قبائل صغيرة، حيث تضم قرية «وادى سعفة» 21 أسرة يعيشون بنهاية الوادى، حيث لا توجد مدرسة، بينما يوجد مقر لمنظمة «الفاو» التابعة للأمم المتحدة وتقوم بمساعدة الأهالى لتحسين إنتاج الألبان وتربية الماشية والدواجن والكشف عن الآبار ومحاولات تجربة التربة للزراعة، بالإضافة إلى تعليم الأسر بعض الحرف اليدوية كما أكدت نسوة القرية.
«لا نريد شيئا طالما أكرمنا الله بالسيل.. لكن نريد الأوراق الثبوتية»، هكذا أوضح حسن مشيرا إلى أن العديد من السكان يجدون صعوبة فى تسجيل عقود الزواج أو دخول الأطفال مدارس فى قرى أخرى، حيث يجدون صعوبة فى استخراج الأوراق الثبوتية وبخاصة الذين لم يتواجدوا أثناء الحصر الذى قامت به الحكومة عام 95، وأكد رئيس مجلس مدينة شلاتين اللواء وجيه المأمون أن الأوراق الثبوتية المعنى بها مكتب شئون القبائل وليس المجلس المحلى أو مجلس المدينة مؤكدا أنه لا تعنت أو تأخير فى خدمة تقديم الأوراق الثبوتية طالما قدم الشخص الأوراق المطلوبة لاستخراج بطاقة رقم قومى أو وثيقة زواج وغيرهما.
ترسل الحكومة شهريا 7 أطنان من الدقيق لقرى أبرق بالإضافة للزيت والسكر وبعض الأدوية المجانية، كما توجد حمولات أخرى يتم التعاقد عليها من قبل أحد مشايخ القرية ويتم بيعها للأهالى بأسعار مناسبة، «الحمدلله الخير موجود طالما المطر موجود» تقولها الحاجة سعيدة (40 عاما) بهدوء رافعة يديها ونظرها للسماء، وتتابع فى هدوء وصوت خافت «احنا بنصحى من الفجر نخبز العيش ونطلع على المشغل نعمل شغل يدوى علموهلنا وبياخده مننا عم منصور عشان يبيعه لنا فى الشلاتين ويجيب لنا فلوس لكن والله لو الدقيق اللى بييجى لنا ببلاش يزيد حبة يبقى والله خير ونفعه».
الجبنة حق الضيف
تبدأ الرحلة وتنتهى عند الشيخ حامد حيث يلتف حوله عدد من رجال القبيلة وسكان الجبل، يسعون لخدمته لفقدانه بصره رغم عدم فقدانه لياقته البدنية وحسه الفكاهى المشهور به، «سافرت الإسكندرية والقاهرة والسويس والإسماعيلية والسودان وعشت فترات طويلة فى هذه المدن ولكن ظل الجبل وقرى أبرق هى موطنى الذى عدت له لأقضى باقى عمرى فيه» هكذا يروى عن حياته فى الجبل وتفضيله الخيام التى يقوم بنصبها بطريقتهم وخاماتهم الخاصة، يضحك بشدة ويتابع «الواحد مننا ياخد فرشته ولما الشمس تغيب يفرشها فى أى حتة فى الجبل وينام لأن ما فى شىء نخافه فى الجبل.. لكن لما ييجى لنا ناس محترمة زيكوا لازم يكون فى مكان كويس نستقبلهم فيه لأنكوا دايما خايفين من العقارب والثعابين واحنا نحب نكرمكوا ونخليكوا مرتاحين».
يلتف الرجال حول الفحم المتقد لصنع «الجبنة» المشروب التقليدى الذى تشتهر به المنطقة، ولا يتم تقديمه سوى للضيف المرحب به حيث يعد تقديرا استثنائيا له، وهو عبارة عن قهوة مطحونة يدويا يتم غليها مع «الزنجبيل» على الفحم وتقديمها فى فناجين صغيرة، وعلى الضيف أن يشرب عدد فردى من الفناجين لأن العدد الزوجى يعد إهانة وما أن ينتهى عليه وضع الفنجان على فوهته علامة على الانتهاء وعدم الرغبة فى المزيد.
يودع الشيخ حامد زواره ويتمنى لهم رحلة طيبة آمنة على الطريق الجبلى، ويطلب منهم زيارته وزيارة المنطقة مرة أخرى، قرى الشلاتين الجبلية البسيطة لم تعبث المدنية ببراءتها وطبيعة سكانها الفطرية، ينتظرون خدمات طبية، حيث لا يوجد أطباء بالقرى ويعتمدون فى علاجهم على الأعشاب الطبيعية، وتبعد اولى الوحدات الصحية عنهم كيلومترات.
يظن البعض أن فقرها مؤلم لأبنائها، ولكن لا يؤلمهم الفقر مثلما يؤثر فيهم محاولات وسعى البعض لتغيير طبيعة حياتهم وتقاليدهم، ينتظرون تعلم المزيد فى مجال الزراعة إذا ما سمحت لهم التربة هناك بالزراعة ووجدت المياه الصالحة، يعشقون الرعى ويتمنون ماشية أكثر، منهم من أرسل أبناءه للتعلم ومنهم مازال يجد الرعى مهنته وحياته، يحترم الآخرين على اختلافهم ويريد الاحترام ذاته.
الشلاتين قرى مازالت كنوز أراضيها بكرا من المعادن والطبيعة الخلابة فى محمياتها الطبيعية والنباتات النادرة التى تستخدم كعلاج لأمراض عديدة، منطقة لا تحتاج لشفقة وتبرعات وإنما تحتاج لنظرة وإعادة اكتشاف دون العبث بموروثات أبنائها الثقافية.