فى 23 مارس 1925م حل الملك أحمد فؤاد الأول البرلمان الثانى لثورة 1919م فى نفس يوم انعقاده، ضاربا عرض الحائط بالدستور، متمما أول انقلاب دستورى فى التاريخ المصرى الحديث. دخلت مصر فى نفق مظلم من الدكتاتورية والاستبداد، ففى ظل غياب البرلمان أنتزع الملك سلطة إصدار القوانين، وأخذت حكومته برئاسة زيور باشا، والتى قادت الانقلاب ضد الدستور، تماطل فى إجراء انتخابات جديدة للبرلمان، وتحججت بإعداد قانون جديد للانتخابات، متجاهله الدستور، والذى ينص فى المادة (89) منه على «الأمر الصادر بحل مجلس النواب يجب أن يشتمل على دعوة المندوبين لإجراء انتخابات جديدة فى ميعاد لا يتجاوز الشهرين وعلى تحديد ميعاد لاجتماع المجلس الجديد فى العشرة أيام التالية لتمام الانتخاب».
وتمادت الحكومة فى تعديها على الدستور، فأخذت تصدر القوانين فى غيبة البرلمان، فى مخالفة صريحة للدستور، والذى نص فى المادة 25 منه على «لا يصدر قانون إلا إذا قرره البرلمان وصدق عليه الملك»، كذلك المادة 41 والتى تنص على «إذا حدث فيما بين أدوار انعقاد البرلمان ما يوجب الإسراع إلى اتخاذ تدابير لا تحتمل التأخير فللملك أن يصدر فى شأنها مراسيم تكون لها قوة القانون بشرط ألا تكون مخالفة للدستور ويجب دعوة البرلمان إلى اجتماع غير عادى وعرض هذه المراسيم عليه فى أول اجتماع له، فإذا لم تعرض أو لم يقرها أحد المجلسين زال ما كان لها من قوة القانون».
وليس من الغريب أن نكتشف أن القوانين التى سنتها الحكومة فى غيبة البرلمان، وفى تحدٍ صريح للدستور، كانت فى مجملها موجهة ضد حرية الرأى والتعبير، وتهدف إلى إطلاق يد الحكومة ضد معارضيها، كالتعديلات التى أدخلتها فى 9 يوليو 1925م على المواد الخاصة بجنح الصحافة والنشر فى قانون العقوبات، والتى كانت تهدف فى مجملها إلى التضييق على الصحافة، وتمكين الحكومة من غلق الصحف واعتقال الصحفيين.
كذلك إصدارها لما سمى «قانون الجمعيات والهيئات السياسية»، والذى صدر فى 27 أكتوبر 1925م، والذى وضع العديد من العراقيل فى مواجهة الأحزاب السياسية والجمعيات الأهلية، معطيا الحق لمجلس الوزراء فى حل الأحزاب السياسية متى رأى ذلك، وهو ما يعد ضربة قاضية للديمقراطية فى مصر، فثارت الأحزاب وبدأت تبحث عن حل قبل فوات الأوان، وقررت عدم الرضوخ لذلك القانون، وأصدر كل من الأحزاب السياسية الثلاثة، حزب الوفد، الحزب الوطنى، حزب الأحرار الدستوريين، بيانا يعلن رفضه للقانون الجديد.
كانت البلاد تسير من سيئ إلى أسوأ، وأصبح من المؤكد أن الحكومة ستستمر فى المماطلة، ولن تجرى انتخابات جديدة للبرلمان فى القريب العاجل، فكان لابد من خطوة حاسمة.
فى أول نوفمبر 1925م أطلق أمين بك الرافعى مبادرة أقترح فيها أن يجتمع البرلمان من تلقاء نفسه يوم السبت 21 نوفمبر إعمالا للمادة 96 من الدستور، والتى تنص على «يدعو الملك البرلمان إلى عقد جلساته العادية قبل يوم السبت الثالث من شهر نوفمبر، فإذا لم يدع إلى ذلك يجتمع المجلس بحكم القانون فى اليوم المذكور».
نشر أمين بك عدة مقالات فى جريدة الأخبار بداية منيوم 8 نوفمبر، عرض فيها لاقتراحه، فكان أول من استجاب لدعوته الحزب الوطنى، فاجتمعت لجنته الإدارية يوم الجمعة 13 نوفمبر، وقررت الآتى:
«يدعو الحزب الوطنى أعضاءه فى مجلس النواب والشيوخ وكل من ينحو نحوهم ويسير سيرتهم أن يذهبوا إلى البرلمان يوم السبت 21 نوفمبر سنة 1925 الساعة العاشرة صباحا حتى يؤدوا واجبهم الوطنى حيال أمتهم، وحيال وطنهم، وحيال دستور البلاد، وحيال حزبهم، وحيال مبادئهم، فإذا حالت القوة بينهم وبين الاستمرار فى أداء واجبهم فليرفعوا صوتهم بالاحتجاج على هذا العدوان الجديد، وليشهدوا العالم على انتهاك حرمة الدستور، وليسجلوا على العابثين عبثهم حتى يحاسبوا عليه يوم تزول دولة الاستبداد، وتعود الحياة البرلمانية إلى البلاد».
وأعلن الوفد وحزب الأحرار الدستوريين موافقتهم على تلك الدعوة، ولاقت القبول لدى القوى السياسية والشعب المصرى الذى ضاق صدره بالاستبداد.
فزعت الوزارة من تلك الدعوة، وتخوفت من النتائج إذا سمح للبرلمان المنحل بالاجتماع رغما عنها، فقررت منعه بكل الوسائل الممكنة، وأصدرت ثلاثة بلاغات رسمية بذلك، الأول باسم مجلس الوزراء يعتبر الاجتماع عملا غير شرعى ومعادى لمصلحة الدولة العليا، والثانى من وزارة الداخلية تحذر المواطنين من التجمهر بالقرب من مبنى البرلمان وتتوعد المخالفين بالاعتقال والقتل، والثالث من وزارة المعارف تحذر الطلبة من الامتناع عن الدراسة أو المشاركة فى المظاهرات.
وبلغ الذعر بالوزارة أن حاصرت مبنى البرلمان بقوات الجيش، فعسكرت قوات الجيش المصرى فى مبنى البرلمان من ليلة الجمعة 20 نوفمبر 1925م، وفى صباح اليوم التالى المقرر لعقد البرلمان، خرجت قوات الجيش تسير فى تشكيلاتها القتالية رافعة السلاح تطوف فى الشوارع المحيطة بالبرلمان، الذى تحول بدوره إلى قلعة حربية لا يمكن اختراقها بدون معركة دامية.
أصبح من المستحيل اجتماع البرلمان فى مقره الطبيعى، فقرر النواب عقد اجتماعهم فى فندق الكونتننتال بميدان الأوبرا، واجتمع البرلمان فى ميعاده المحدد يوم السبت 21 نوفمبر 1925 مع هيئة مؤتمر ضم أعضاء المجلسين، وبدأ الاجتماع من الساعة التاسعة صباحا، وأصدر القرارات الآتية:
«تنفيذا لأحكام المادة 96 من الدستور اجتمع أعضاء البرلمان اليوم وأرادوا عقد المجلسين فى دار البرلمان فمنعتهم القوة من الوصول إليه، وعلى ذلك اجتمعوا اليوم فى فندق الكونتننتال وتكامل عددهم القانونى، وبعد المناقشة فى الحالة الحاضرة قرروا بالإجماع ما يأتى:
أولا: الاحتجاج على تصرفات الوزارة المخالفة للدستور وعلى منع الأعضاء من الاجتماع فى دار البرلمان بقوة السلاح.
ثانيا: قرر مجلس النواب عدم الثقة بالوزارة طبقا للمادة 65 من الدستور.
ثالثا: اعتبار دور الانعقاد موجودا قانونا واستمرار اجتماعات المجلسين فى المواعيد والأمكنة التى يتفق عليها الأعضاء.
رابعا: نشر هذه القرارات فى جميع الصحف.
كان لاجتماع البرلمان أثر كبير على الوضع السياسى فى مصر، فبعد الاجتماع بيومين، أى فى 23 نوفمبر، وجه عدد من أمراء العائلة المالكة خطابا للملك يطالبونه بإعادة الحياة الدستورية للبلاد، فعزز دعم الأمراء لعودة الدستور من موقف القوى السياسية.
تطورت الأمور سريعا، فأجبر الملك فؤاد تحت الضغط الشعبى المتزايد على إعادة الحياة الدستورية للبلاد، فدعى لانتخابات برلمانية طبقا لقانون الانتخابات الذى أقره برلمان 1924م، وجرت الانتخابات فى مايو 1926م، وشكلت حكومة ائتلافية تحظى بثقة الشعب من أحزاب الوفد والأحرار الدستوريين ودعمها الحزب الوطنى، وإن لم يشارك فيها.
انتهى الانقلاب الدستورى الأول بتحالف الأحزاب السياسية ضد الاستبداد، ودفاعها عن الدستور الذى دفع المصريون ثمنه من دمائهم غاليا، ولكن الأحزاب لم تتعلم الدرس، وسرعان ما انهار الائتلاف بينها، مما فتح الباب للانقلاب الدستورى الثانى فى عام 1928م بقيادة محمد محمود باشا