أنا باحث علوم سياسة، متوجه للتخصص بحقل الفكر السياسى بخاصة الإسلامى والتراثى منه، ولست من متخصصى العلاقات الدولية والسياسة الخارجية وإن نعمت بصحبة وتلمذة لأكثر من عشر سنوات على يد واحدة من أساطين هذا الحقل: د.نادية محمود مصطفى أستاذ العلاقات الدولية والرئيس السابق لقسم العلوم السياسية كلية الاقتصاد جامعة القاهرة. ومن هذه الزاوية المتواضعة شدنى جدا الجهد الذى يقدمه الأستاذ الكبير جميل مطر لتبين معالم السياسة الخارجية المصرية الجديدة سواء فى المرحلة الانتقالية أو بالأخص بعد انتخاب الرئيس المصرى الحالى. ●●● ومن مراجعة ما كتبه أستاذنا وما أشرف عليه على صفحات الشروق أقدر هذا التراكم العلمى والتحليلى المهم، وأحاول أن أجمل محاوره فى: البحث عن العوامل التى تؤسس عليها السياسة الخارجية المصرية الجديدة خاصة فى ظل مستجدين: الثورات العربية وفى قلبها الثورة المصرية، وصعود الإسلاميين إلى السدة. هذا مع تحريك النظر فى سائر محددات هذه السياسة الداخلية والخارجية؛ وعلى رأسها أثر الماضى القريب سياسيا واقتصاديا على القدرات المصرية وحالة السيولة السياسية الداخلية ووضعية سياستنا الخارجية الموروثة، ثم أثر تحولات النسقين الإقليمى والعالمى من الارتباك الإسرائيلى واستمرار الثورة السورية، والأزمة المالية العالمية، والتحرر العراقى النسبى والحراك على المحور الطائفى،.. وما إليه.
كذلك يحاول أستاذنا فيما يكتبه ويستكتبه أن يطل على الأجندة المصرية الأولى بالاهتمام والتنشيط، ودوائر الحركة المنتظرة، وشروط الفاعلية والإجادة فى صنع هذه السياسة وتنفيذها. وهذا كله جهد لا يقابل إلا بالتأييد والتعزيز والمشاركة الإيجابية فى المراكمة عليه، والدعوة إلى العمل على منواله.
●●●
بيد أن ثمة منطقا تميل إليه المعالجة الخاصة بالأستاذ الكبير كل حين، كما تنحو إليه بعض الأقلام التى تستكتب، تتعلق بموقع الدين والثقافة والقيم من السياسة الخارجية بعامة والمصرية بخاصة. والمقولة المركبة فى ذلك تترواح بين شقين: أولهما أنه ليس مسلَّما أن يكون الدين عاملا حاسما ومؤكدا فى تفسير التوجه السياسى الخارجى عامة أو لمصر، وأنه إذا افترض ذلك فإن فاعلية ذلك لا تتعدى الرمزية حينا، واللعب على الدائرة الإسلاموية حينا آخر، فيما تتلاشى هذه العلاقة حال التعامل مع الدوائر غير الإسلامية. الشق الثانى للمقولة أن إسلامية التوجه العام للدولة أو نظام الحكم الجديد فى مصر أو تركيا أو غيرهما قد تتحول إلى قيد غليظ وعبء ثقيل على هذه الدول، وإشكالية تحول دون تقدم هذه السياسة الخارجية وفعاليتها بل ربما أدت إلى تهديدات ومخاطر؛ بمعنى أن التضارب بين القيم والمصالح، وبين الدينية والفاعلية، وبين الحماس الدينى والبراجماتية السياسية هو الأقرب إلى التوقع أو التحسب.
صيغت هذه المقولة بأشكال مختلفة فيما قدمته «الشروق» خلال الشهرين الماضيين، وشارك فيها عدد من الخبراء وعلماء السياسة المنطلقين من رؤية أشاروا إليها بالرؤية المدنية والحديثة والواقعية. لكن مقال الأمس للأستاذ جميل مطر كان كاشفا عن هذه المعضلة، وكأنه يطرحها على الذين وصفهم بالنفر الذى «يقول إن الفضل فى تحرك عجلة السياسة الخارجية يعود إلى الدين..... يقول هذا النفر من المنظرين، من النماذج التى تؤكد صعود دور الدين فى رسم السياسة الخارجية..».
وأزعم أننى لست مع هذا النفر الذى يقول إن الفضل فى تحريك السياسة الخارجية المصرية يعود إلى الدين بقدر ما يعود إلى مركب من التدين المشوب بحالة الثورة ووهجها وحسابات الدولة وروح المسئولية التى لابد أن تتلبس كل من يقطن هذه المواقع مهما يكن، وأنه هكذا ينبغى أن تبدأ عملية إعادة تأسيس السياسة الخارجية المصرية بعد عهود من التغييب والتقزيم والتسميم. يجب أن تكون عملية مركبة وألا نستبعد منها أى عنصر من عناصر الفاعلية والأمان والتقدم والقدرة على التأثير. ودور الدين مشروط بذلك.
●●●
ومن هنا تأتى المقولة المقابلة: التحدى ليس فى حضور الدين أو غيابه عن الساحة السياسية بعامة والسياسة الخارجية بخاصة، فهذا الموقف أيديولوجى سواء كان دينيا أو علمانيا. التحدى الحقيقى والعملى هو فى الكيفية التى يفهم ويمارس بها الدين بقيمه ومقاصده وأحكامه وتوجيهاته، وهويته ومرجعيته؛ بحيث يحقق أكبر عائد منه، ويعبئ الطاقات الإيجابية اللازمة لبناء سياسة خارجية ودور فعال لمصر فى المنطقة. لا نقول توظيف الدين، فهذا قد كان نهج النظم الانتهازية، بل حسن فهمه بما يجعله إضافة على القدرة المصرية العميقة فى الداخل والخارج.
ومن ثم فإن الإشكاليات التى يمكن أن تقع نتيجة الالتزام الدينى للدولة أو نظام الحكم أو صانعى السياسة الخارجية، لا تأتى من الدين نفسه بقدر ما تأتى من ضيق الفهم أو سيولته، من شكليته أو الاستخفاف بأصوله. إن السياسة الخارجية المصرية على محك تاريخى، ويجب أن يعاد النظر فيها بعقل وسيع وضمن نسق مفتوح، ولعل المصريين كافة مجمعون على أن المرجعية الإسلامية فيها هذا المطلب بشرط الفهم، الفهم.
وبناء عليه، ترتسم أمامنا ساحة للحوار الواقعى للبحث عن هذا النوع من الفهم، والبحث عن احتمالات الحيدة عن الفهم العميق والوسيع وانعكاساتها على الأمن القومى المصرى وفاعلية سياستنا الخارجية، وأن نبحث عن طرق التمكين للدينى والثقافى والقيمى الإيجابى بوصفه إضافة فى الرؤية المصرية الوطنية الجديدة، التى يتسق فيها الشأن الخارجى مع الواقع الداخلى، ويتكامل معه.