هذا بالضبط ما نعاني منه، "مشكلة حضارتنا"، كل الحكام العرب يأتون بمداعبة الجماهير عبر "كلام كبير" عن بناء الحضارة والمجد، وأحيانًا النهضة، تلك الكلمة السحرية التي شغلت بال أحد أعلام الفكر الإسلامي، وهو مالك بن نبي "1905-1973"، صاحب أهم الكتب عن مشكلات الحضارة "شروط النهضة"، الذي خرج أولا بالفرنسية في 1948، ثم بالعربية في 1957.
ورغم اختلافي مع ما ورد بكتاب ابن نبي، إلا أن الكتاب وصاحبه يستحقان الإشادة، بسبب نقده لما سبقوه، خاصة جمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده حول مسألة الحضارة، والذي تعامل معها كعالم في علوم الفيزياء أو الكيمياء.
أميل للفريق الذي يعتقد أن مشكلة الحضارة العربية، جاءت بعد القرن الثاني عشر، إثر تكفير فلسفة ابن رشد، القائمة بالأساس على "الفسلفة اليونانية"، التي تعتمد على "النسبية والمنطق الرياضي"، أو بالأحرى المعتمدة على "العلمانية"، باعتبارها نظرية في المعرفة، وليست في السياسة، ولكن هذا لا يمنع التعرض لتجربة فكرية خالصة ومهمة عن الحضارة والنهضة، حسب مالك بن نبي، الذي يستعير منه المفكرون الإسلاميون، ومن ورائهم الحكام، الكثير من أفكاره.
(2)
"إن المشكلة ليست أن نعلم المسلم عقيدة هو يمثلها، وإنما المهم أن نرد إلى هذه العقيدة فاعليتها وقوتها"، هذا السطر وجهه مالك في نقده للأفغاني ومحمد عبده، فهو يرى أن كل مصلح قد وصف الوضع الراهن تبعًا لرأيه أو مزاجه أو مهنته، فرأى رجل سياسي كجمال الدين الأفغاني أن المشكلة سياسية تحل بوسائل سياسية، بينما قد رأى رجل دين كالشيخ محمد عبده أن المشكلة لا تحل إلا بإصلاح العقيدة والوعظ، على حين أن كل هذا التشخيص، حسب مالك، لا يتناول في الحقيقة المرض بل يتحدث عن أعراضه، وقد نتج عن هذا أنهم منذ مائة عام لا يعالجون المرض، وإنما يعالجون الأعراض.
وفي كتابه، الذي ترجمه عبد الصبور شاهين، يتحدث ابن نبي عن نقطة، تشغلنا الآن، في ظل الصعود الإسلامي للحكم، وهي أثر الفكرة الدينية في الحضارة، محاولا السؤال حول كيف يُتاح للفكرة الدينية أن تبني الإنسان حتى يقوم بدوره في بناء الحضارة، وبالتالي كيف يتاح لهذه الفكرة ذاتها أن تمدنا بتفسير عقلي لدور إحدى الديانات في توجيه التاريخ؟
طبعًا، هو دافع عن هذه الفكرة التي تتسق مع الفكر الإسلامي، الذي يعتبر الإسلام "دينًا ودولة"، لذلك مالك وجه انتقادات إلى الفكر الماركسي لتجاهله لهذه النقطة، ف"الدين هو المروض الأقوى للروح". ولكن التجارب التاريخية لهذا الأثر الديني مخزية، ورهيبة، وبشعة، وتدعو للخوف، خاصة أن عقلي يعتقد في الدولة المدنية، والتي بوضوح شديد هي "العلمانية"، التي تقرر أن "كل شيء نسبي"، وأن الكون يتحرك وغير ثابت.
وبعيدًا عن هذا، نرجع إلى كتاب مالك، الذي يعرض فيه شروطه للنهضة، حيث ركز مالك على الإنسان، وفصل في طريقة النهوض به من خلال توجيهه في نواحٍ ثلاثة: توجيه الثقافة، وتوجيه العمل، وتوجيه رأس المال. فمشكلة النهضة عنده تتحلل إلى ثلاث مشكلات أولية: مشكلة الإنسان، ومشكلة التراب، ومشكلة الوقت، فإقامة نهضة لا يكون بتكديس المنتجات، وإنما بحل هذه المشكلات الثلاث من أساسها.
تحدث بعدها عن "الدورة الخالدة" فكما يمر الإنسان في حياته بمراحل متعددة من الطفولة والصبا والشباب والقوة ثم الشيخوخة ثم الموت، كذلك تمر الحضارات بمراحل ثلاث: هناك مرحلة الإقلاع، ثم مرحلة البنيان والتمدين، ثم مرحلة الهبوط من هذا السقف التمديني وصولا إلى الانحطاط الحضاري.
لكن يظل، مالك الجزائري الجنسية، مشغولا بطبيعة الحال بالاستعمار الغربي للدول العربية والإسلامية، فأفرد فصولا في كتابه، ولكن تأمل ما قاله: "ولنتأمل، ما الذي بعث العالم الإسلامي من نومه قرنًا؟ من الذي أيقظه من خمسين سنة تقريبًا؟ من الذي قال له قم؟! إنه الاستعمار، نعم إنه قد خلع علينا بابنا، وزعزع دارنا، وسلب منا أشياء ثمينة، لقد أخذ من حريتنا وسيادتنا وكرامتنا، وكتبنا المنسية، جواهر عروشنا".
ويختم بمشكلة التكيف الذي يحصل من كثير من الشعوب التي تتكيف مع الاستعمار، فيكون البحث هنا وهناك عن حلول ليست حقيقية، وإنما هي أوهام الرجل الوحيد، والحل الوحيد، وننسى المشكلة الرئيسية التي هي مشكلة الحضارة أولا وقبل كل شيء.
الغريب أن هناك احتلالا داخليًّا يمارسه الحكام العرب لشعوب العالم العربي والإسلامي، وهم أصعب حالا من الاستعمار الخارجي الذي تحدث عنه مالك بن نبي.
(3)
وعلى ضخامة الكتاب، فكرًا وفلسفة، يمكن تلخيصه في أسباب تعثر النهضة الإسلامية الحديثة في ثلاثة عوامل، حسب مالك، وهي: عدم تشخيص غاية النهضة، وعدم تحديد المشكلات الاجتماعية تحديدًا جيدًا، وعدم تحديد الوسائل"، مما أدى إلى التيه والضياع مع التبذير في الوسائل؛ لأن الحركة أصبحت تخضع للصدفة، وبالتالي لم تأتِ بنتيجة في اتجاه معين وفي وقت معقول.
وقد حاول الإخوان المسلمون في مصر، تصدير مشروعهم، الذي فُهم خطأ بعد ذلك، بأنه مشروع للنهضة وإرادة شعب، الذي ليس فيه عمق فكر مالك، وتحليله لمشكلات الحضارة، التي في النهاية لا تتبنى إلا بالفكر النسبي والعلوم الدقيقة، فإذا لم يملك الإخوان مشروعًا للنهضة، عليهم قراءة كتاب مالك بن نبي.