يقشعر بدنى.. فالهواء باردٌ ولستُ ممن يكثرون الخروجَ ليلا.. أَنظُر بعيدا فأرى جيرانى يفعلون مثلما أفعل.. يقفون على مداخل بيوتِهم وشوارعِهم فى محاولة لبعث الطمأنينة فى قلوبِ ذويهم. أتذكر حماقتى بعد أن صدَّقت كلاما أجوف.. أتذكر منظرَ الدوابِ التى انطلقت فى الميدانِ وعلى وجهِها علامات استفهام تفوق التى علت وجوهَ راكبيها.. أتذكر ذلك الجمل البرىء الذى ملأ الرعبُ وجهَه وقد بدأ فى الرفس من فرطِ الرهبة وهو يهرب.. أتذكر كمَّ الحجارةِ ومشاهدَ الدمِ وأصواتَ استغاثات الأطباءِ وقد تعالت طالبة النجدة.. أتذكر الزجاجات الحارقة وقد انطلقت من أيدى قاذفيها يشقُ ضوؤها عتمةَ الليلِ.. أتذكر صوتَ خفقات قلبى وشعورى بالرعبِ من هيبةِ المشهد.. أرى مهاجمين شرسين وقد انتووا الشر وشرعوا فى قتلِنا.. تُمطر السماءُ حجارة وتستمر فى الإمطارِ حتى نتعوَّد على صوتِ ارتطامها بالأرضِ من حولِنا.. لا أخاف بل أندفعُ نحوَ المعتدين أحاولُ صدَّهم.. فلا يمكن أن أسمح بفقدان شبرٍ واحدٍ من أرضٍ دَفعَ ثمنها الشهداء.. يملأنى الحماسُ وأصرخ وأنا ألتقطُ حجرا من الأرضِ.. وأصرخ ثانية محاولا إشعال حماسة زملائى ثم أقذف الحجرَ بكل ما أوتيت من قوة.. أستمرُ فى ذلك لبعضِ الوقت وتَزيد حماستى وأنا أرى النصرَ قريبا.. فأتقدم وأتقدم.. تزيدُ حماستى ويعلو هتافى.. ثم أشعر بألمٍ شديدٍ يشق رأسى يتبعه دفءٌ ينهمر فيغطى وجهى ثم تدورُ السماءُ وتنقلب وتقوم الأرضُ فتلطمنى على وجهى.. رائحةُ الترابِ تملأ رئتى وأبتسم فالترابُ الغالى يشكرنى ويحتضن دمى الدافئ ليمزجه بدماءِ من سبقونى. توقظنى قشعريرةُ البردِ من كل هذا.. وياليت ذلك كان حقيقة.. ياليتنى كنتُ هناك.. يخنقنى إحساسُ أن هناك من فَقَدَ حياتَه دفاعا عن حريتى وشرفى وكرامتى بينما أنا فى شارع بيتى أحملُ عصا وأشكو البردَ.. تدمع عينى من إحساسٍ بالدينِ لكل من هؤلاءِ الشهداء.. وأبكى حين أتساءل عما اقترفوه من ذنبٍ.. ينجلى الليلُ ولم يزرنى النومُ.. كاهلى مُثقَل وضميرى يقتلنى.. فأذهب للميدانِ لعلى أجد خلاصا من عذابى.. أتفقد الأماكن التى شهدت الأحداث فيعتصرنى الألمُ والحزن.. تخطف بصرى صورُ الشهداءِ فأغمض عينى محاولا كبحَ دموعى.. ولكنها تهزمنى.. وياليت فيضها ينزح الهمَّ والحزنَ عنى. أذهب للميدان محاولا سداد أى من ديونى.. وهباء أحاول.. فقد انقشع الخطرُ.. وديونى لن تُسَدد.. أنظر إلى الأرضِ وأدقق فى ترابِها.. يا ليتك ملأتَ صدرى..