فى مطلع الأسبوع الذى سيختار فيه المصريون، لأول مرة، رئيسهم، كانت نخبة من الخبراء والسياسيين ورجال الأعمال مجتمعين على مائدة مستديرة بالجامعة الأمريكية، ليطرحوا أسئلة تتجاوز كل الاختلافات بين مرشحى الرئاسة، حول مستقبل سياسات الدعم، بين احتياجات من يعيشون «عشرة فى غرفة واحدة» فى قلب القاهرة، والعجز المتفاقم فى الموازنة والذى يعطل أى زيادة جديدة فى النفقات الاجتماعية. على بعد أمتار من ميدان التحرير، حيث انطلقت الثورة وتعاقبت التظاهرات السلمية المطالبة بالعدالة الاجتماعية، كانت هانيا الشلقامى، الأستاذة بمركز البحوث الاجتماعية بالجامعة الأمريكية، تتحدث فى قاعة ايوارت التاريخية، عن رؤية لمستقبل السياسات الاجتماعية بعد اتمام نقل السلطة بانتخاب رئيس جديد. «نحن مقبلون على مرحلة تجمع بين ميل السياسيين لتبنى سياسات شعبوية لتلبية مطالب الثورة، وبين خوف المسئولين من ابتكار سياسات جديدة تحقق تلك الأهداف الاجتماعية حتى لا يتعرضوا إلى المحاسبة».
حالة التردد بين المسئولين الحكوميين، والتى ظهرت عقب محاكمة عدد من رموز النظام السابق، عبرت عنها إحدى الباحثات بوزارة التضامن الاجتماعى بحديثها عن «الأيادى المرتعشة» والتى رأت هى وعدد من زملائها شاركوا فى جلسة النقاش أنها ستظل تحول دون وصول الدعم لمستحقيه حتى بعد إصدار قانون الضمان الاجتماعى الجديد برغم ما يتضمنه من سياسات أكثر كفاءة فى استهداف المستحقين.
قنابل موقوتة فى انتظار الرئيس الجديد
وفى مقابل منظومة الدعم المستعصية على الإصلاح، ينتظر الرئيس القادم عجز مالى ضخم وإجراءات ضرورية لإعادة هيكلة سياسات الدعم ربما تكون «أكثر سرعة وأكثر قسوة مما نتخيل» كما قالت غادة والى، الأمين العام للصندوق الاجتماعى للتنمية.
«أيا كان اسم الرئيس الجديد، فهو تنتظره قنابل موقوتة» بحسب تعبير أحمد هيكل، رئيس مجموعة القلعة للاستثمار المباشر، معبرا عن قلقه من استمرار تفاقم عجز الموازنة مع وجود مطالب اجتماعية ملحة لا تحتمل الانتظار، متوقعا أن يصل العجز فى العام المالى المقبل إلى 250 مليار جنيه.
وكيل لجنة الخطة والموازنة بمجلس الشعب، أشرف بدر الدين، انتقد هو الآخر منظومة الدعم الحالية التى يمثل دعم الغذاء 11% منها ومعاش التضامن الاجتماعى 1.5%، بينما يذهب 65% منها إلى الأغنياء، «أنا من أشمون فى المنوفية ولا أجد فى مكان سكنى بديلا عن الخبز المدعم، بل إن أحد السفراء سألنى فى مرة لماذا تدفع له الحكومة دعما للبنزين ب35 يورو فى كل مرة يذهب فيها إلى الإسكندرية».
الدعم لسكان المواسير
كيف يصل الدعم لمستحقيه؟ كان السؤال الأبرز فى جلسة النقاش، وكان هناك شبه إجماع بين الخبراء على أن سياسات الدعم الحديثة أصبحت تركز على حماية الدخول وليس فقط تقديم السلع المدعمة، فأى شخص معرض للفقر بسبب البطالة، من هنا تبرز أهمية سياسات مثل إعانة البطالة المؤقتة.
كما تم طرح فكرة التحويلات النقدية المشروطة والتى تستهدف خلق عقد اجتماعى بين المواطن والدولة، يشترط على الفقراء تغيير سلوكياتهم بما يحسن من وضعهم فى المستقبل، وكان مشروع التحويلات النقدية المشروطة الذى طبقته وزارة التضامن الاجتماعى بشكل تجريبى فى منطقة عين الصيرة، أحد الأمثلة على تلك السياسات، والذى استهدف تقديم 250 جنيها شهريا للأمهات، و40 جنيها عن كل طفل فى الأسرة فى مرحلة التعليم الأساسى، مقابل إلزام الأم بحضور أطفالها عددا محداد من ساعات الدراسة وعمل كشف تطبى فى التأمين الصحى كل فترة، إلا أن هذا المشروع تجمد تنفيذه بعد الثورة بالرغم من انتهاء الباحثين من الدراسات الخاصة بتطبيقه فى قرى أسيوط وسوهاج.
الاستهداف الجغرافى بالسياسات الاجتماعية للقرى الأكثر فقرا، كان من السياسات العاجلة التى اقترحتها سحر الطويلة، مديرة مركز العقد الاجتماعى التابع لمجلس الوزراء «لدينا قرى نسبة الأسر الفقيرة فيها 84% من اجمالى سكانها علينا استهداف تلك المناطق فورا، بعض الآباء قالوا لى إنهم يريدون ارسال بناتهم للمدرسة لو وجدوا للبنت جلبابا غير ممزق، وهو ما يعنى أن مجرد توفير الزى المدرسى لتلك الأسر سيساعد على الانتظام فى التعليم».
بينما أشارت غادة والى إلى أن هناك أسرا شديدة الفقر فى مناطق حضرية يجب استهدافها بالبحث فى مستويات الدخول «لقد شاهدت أسرا تعيش فى المواسير فى القاهرة، وعشرة أفراد يبيتون فى غرفة فى أحد المبانى فى شارع رمسيس ولا يوجد فى المبنى كله سوى حمام واحد».
وطالبت الباحثات الاجتماعيات اللاتى شاركن فى برنامج الدعم النقدى المشروط بتطوير الشروط التى يتم على أساسها اختيار الأسر المستحقة للدعم «هناك شرط خاص بفاتورة الكهرباء، فماذا عن الأسر التى ليس لديها كهرباء أيضا، لقد رأيت أسرا تعيش فى المجارى ولم يتم اختيارها فى الأسر المستحقة للدعم» كما قالت الباحثات خلال الجلسة.
قادر وفاجر
«المشكلة أن القادر فى مصر قادر وفاجر» بحسب تعبير الشلقامى وهى تتحدث عن محاولات غير مستحقى الدعم الاستفادة من سياسات الدولة الاجتماعية «الأكثر غنى أكثر قدرة على الوصول للخدمات المدعومة». «ونحن نطبق برنامج الدعم المشروط وجدنا لواءات شرطة يتقدمون بزعم أنهم أسر فقيرة، بل إننى اشتبكت فى حوار طويل مع مواطن يتقاضى شهريا 7000 جنيه ويحاول اقناعى أنه مستحق للدعم»، بحسب الشلقامى.
وفى مقابل استفادة القادرين ببعض بنود الدعم، وخصوصا بند دعم الطاقة المتمثل فى دعم الغاز للصناعات كثيفة الاستهلاك ودعم البنزين للسيارات الفاخرة، تخصص ميزانية ضئيلة لدعم تنمية الصعيد ب200 مليون جنيه فقط «ولم يتم صرفها بحسب الحساب الختامى للموازنة، ولا نعرف ما السبب وراء ذلك» كما يقول بدر الدين.
وبحسب وكيل لجنة الخطة والموازنة «تستطيع الحكومة أن تخفض ميزانية الدعم سنويا بنحو 20% بدون المساس بمستحقات الفقراء» مشيرا إلى أن حزب الحرية والعدالة الذى ينتمى له أعد مشروع موازنة للعام المالى الجديد تحت عنوان العدالة الاجتماعية.
«ولكن كيف ستتم إعادة هيكلة سياسات دعم الطاقة مع امتصاص الآثار التضخمية لتلك السياسات؟»، تساؤل طرحه هيكل ولم يجد اجابة على طاولة النقاش.
بينما طرح بدر الدين العديد من السياسات لتدبير الموارد للمطالب الاجتماعية الملحة، مثل إصلاح الفساد فى الصناديق الخاصة، والتصالح فى قضايا الأراضى «هناك عشرون ملفا مطروحا للتصالح، أحد هؤلاء المستثمرين يطرح سداد 65 مليار جنيه مقابل التصالح مع الدولة».
وقد حذر هيكل من الاعتماد على الموارد المالية المؤقتة، مثل مستحقات الدولة فى قضايا الفساد، دون الارتكاز على موارد مالية مستدامة لمواجهة المطالب الاجتماعية الملحة.