فى معرضه المقام حاليًا بقاعة الزمالك للفن، يتخلى الفنان مصطفى عبدالمعطى عن الألوان العميقة التى ميزته فى تجاربه السابقة، ليحمل كثافة اللحظة فى اللونين الأبيض والأسود. 40 لوحة بالقلم الرصاص تعيد لفن «الرسم» بهاءه من جديد، حيث إيقاعات الأسود والتظليل وهالات الضوء التى تشع من قلب السواد وتصنع الفورم معبرة عن التوتر والقلق الذى يعيشه المواطن اليوم. فى حواره ل«الشروق» تحدّث عبدالمعطى عن سر التحول إلى صراع الأبيض والأسود وعن دلالات معرضه بعد الثورة. * هل الأبيض والأسود يعد مرحلة جديدة لدى الفنان أم أنها اختزال شعرى لتاريخ طويل بدأه باللوحة التشخيصية ثم ذهب إلى التجريدية، لماذا هذا التحول وأنت من يشهد لك طلابك بأنك أحد مالكى سر اللون فى الساحة التشكيلية اليوم؟ يتطلب عمل الفنان بالأبيض والأسود معرفة عميقة وعلاقة قوية باللون، تماما مثل المخرج السينمائى فى زمن سينما الأبيض والأسود الذى ينبغى أن يكون عارفا بالعلاقات بين الألوان وأثر تجاورها أو انعكاساتها أو الصراع بينها قبل أن يتحول التكوين على الشاشة إلى الأبيض والأسود. وفى عالم الفن التشكيلى نعتبر أن لونى الأبيض والأسود هما محصلة الألوان جميعا، حتى إننا إذا قمنا بتدوير «بالتة» الألوان سريعا فى اتجاه اليمين ستعطى اللون الأبيض، وإذا تم تدويرها سريعا بالاتجاه السالب ناحية اليسار، ستعطى اللون الأسود. أى أن التحدى هو فى استغلال حساسية اللونين الأبيض والأسود لأعطى الانطباع بأن هناك «بالتة» لونية عريضة قوامها الأبيض والأسود. لأنى فى حقيقة الأمر لا أرسم لونا أبيض ولونا أسود، أى أنى لا ألجأ إلى لون أبيض على سطح اللوحة، بل أرسم فقط بالأسود على السطح الأبيض، وتتحول الظلال إلى بقعة ضوء بيضاء، فأنا أرسم ظلالا ينبثق منها الضوء الذى يتحول إلى فورم على اللوحة ويصنع التصميم الكلى للعمل الفنى. فى معارضى السابقة كان اللون هو البطل، وهو ما يبعد التركيز على الشكل التصميمى للعمل، أما فى عالم الأبيض والأسود يكون الاحتفاء بالفورم وحده دون الاتكاء على أى عنصر آخر.
* يضم المعرض أعمالا أنتجتها قبل وأثناء وبعد ثورة 25 يناير، وتنتمى كلها للاتجاه التجريدى الذى يسعى بصورة ما لتجاوز الشكل للتأثير الوجدانى على المتلقى، وتسيطر على الأعمال الأشكال العضوية المستوحاة من الطبيعة، كيف تأثرت أعمالك بالواقع الثورى؟ وسائل التعبير التى تظهر اليوم هى وسائل مؤقتة، فحين أقوم بعمل فنى اليوم عن الثورة سيكون شديد المباشرة، فالعمل الفنى يحتاج إلى مرحلة هضم واستيعاب وتمثل لروح الثورة قد يستغرق بعض الوقت. لكنى قد ألحظ مع ذلك نوعا من «القلق» فى أعمالى بعد الثورة، فقد تجدى فى إحدى اللوحات مثلا هذه الكتلة الضخمة التى تقف على قاعدة مكونة من قمتين مدببتين، فيشعر المتلقى أنها قد تصمد أو قد تتعرض للسقوط، هذه الحالة من انعدام التوازن هى المتبلورة اليوم.
أما عن علاقة عملى بالواقع بشكل عام، فقد ارتبط تكوينى بالتراث الفرعونى واليونانى الرومانى والقبطى والإسلامى، لكنى لا أتعامل مع التراث كمصدر أنهل منه، لأن ما نراه اليوم على المعابد والمقابر المصرية القديمة هو نتاج فكر وفلسفة ذلك العصر، فليس من المنطقى أن أتأثر بالتراث الإسلامى فتكون النتيجة أن أملأ لوحاتى بالخط العربى. فالتعامل مع التراث ينبغى أن يكون تعاملا مع المسببات وليس مع النتائج، بمعنى أن أبحث فى جوهر وفكر هذا العصر حتى أستطيع أن أعطى كما أعطى القدماء، وبهذا المنطلق يظل التراث حى لا يموت طالما لا ننقل نتاج فكرهم بل نبحث فى السياق والظرف الحضارى الذى نما وتجلى فيه الابداع.
* وكيف ترى مستقبل الحركة التشكيلية وبالأخص الاتجاه التجريدى مع الميل اليوم فى مصر الثورة إلى المباشرة تارة وإلى ابداع أشكال جديدة أكثر شعبية تارة أخرى؟ لا نستطيع اعتبار أن الاتجاه الكلاسيكى قديم والاتجاه التجريدى حديث، فحين يقدم فنان بورتريها مثلا، فلا يعنى هذا أن يصوره بمفهوم ليوناردو دافنشى مثلا، لكن عليه أن ينقل لنا فى هذا البورتريه توتر اللحظة التى نعيشها اليوم فى عام 2012. فالفن ليس انعكاسا للواقع كما يردد الكثيرون، وإلا لقام الفنان بعملية نقل ونسخ لا إبداع فيها، بل الفن يأخذ الإنسان لعالم أبعد من الواقع، ويصبح الواقع مجرد مثير لإبداع عالمه.
أشكال الفن المباشرة التى تظهر اليوم شىء طبيعى، بل شىء صحى أيضا، حتى يتم البناء لمرحلة فنية لاحقة. أتوقع بعد الوصول للاستقرار وبعد أن تحقق الثورة أحلامها ورؤاها ستخرج فنون تعيش عبر الزمن لأنها ستكون معبرة عن حالة انسانية شاملة وليس عن واقع محدد يزول بزواله وانقضائه. ويصبح الإبداع فى حالة خطاب فكرى وليس خطابا انفعاليا لحظيا.