لا أحد يدرى على وجه الدقة مضمون الرسالة التى سيحملها الرئيس الأمريكى باراك أوباما إلى العالمين العربى والإسلامى عندما يلقى خطابه المنتظر من القاهرة الأسبوع المقبل. لكن الأمريكان لهم مقولة معروفة هى: ليست هناك وجبة غداء مجانية، أى أن من يدعوك للغداء يتوقع منك شيئا فى المقابل. ولأن ما بين الولاياتالمتحدة والعالمين العربى والإسلامى ما صنع الحداد، المعروف بالرئيس السابق جورج بوش، فإن ما يتوقعه هذا العالم يتجاوز كلمات الترضية والاحترام والنوايا الطيبة إلى ضرورة تقديم توجهات جديدة تزيل آثار الهجمة السياسية والثقافية والعسكرية والدعائية الشرسة التى شنتها الإدارة السابقة تنفيذا لرغبات اللوبى الصهيونى فى واشنطن ولحساب مصالحه. وفى المقابل فإن أوباما ينتظر من المتلقين بدء تحالف جديد يقوم على المصالح المشتركة ونبذ العداء لأمريكا وفكر التطرف الدينى الذى يستند إليه الإرهاب. وما بين الخطيب والسامع خندق عميق من الخلافات وعدم الثقة والعداوات المفتوحة. هناك بالطبع رواسب هجمة 11 سبتمبر الإرهابية وما تحمّله المسلمون شعوبا وأفرادا بسببها من تبعات ظالمة بلغت حدود الاضطهاد الدينى والعرقى، وهناك غزو العراق وأفغانستان والخراب الذى خلفه فيهما وتبعاته السياسية بعيدة المدى، وهناك ظاهرة الخوف من الإسلام والمسلمين التى روج لها بوش وأتباعه فى أوروبا والعالم، وهناك فضائح التعذيب الهمجى فى أبوغريب وجوانتانامو، ثم هناك الدعم المفتوح لإسرائيل لقتل الفلسطينيين ونهب أراضيهم، وكل ذلك نذر من فيض. وإذا كان من السهل على أوباما أن يقف تحت قبة قاعة الاحتفالات الكبرى بجامعة القاهرة أو أى منبر آخر ليعلن توبة أمريكا عما ارتكبته فى حق المسلمين والعرب وأن يعد بفتح صفحة جديدة من العلاقات، فإن إعادة بناء الثقة لا تتم عبر كلمات أو حكومات بل عبر سياسات. وإذا كانت هناك سلسلة من التوقعات على الجانبين فإن أوباما سيجد نفسه فى المقام الأول مطالبا بوقف التأييد الأمريكى للجموح الإسرائيلى فى المنطقة، الذى يهدد الجيران ويدنس المقدسات ويسرق الحقوق، ذلك أن إسرائيل تباشر بثبات ودأب منذ اثنين وأربعين عاما مصادرة الأراضى الفلسطينية لصالح مستوطنيها والقتل المباح للفلسطينيين أو اعتقالهم، وذلك بفضل التأييد الأمريكى السافر الذى يحميها من أى عقوبات رادعة من قبل مجلس الأمن، أو من الحكومة الأمريكية نفسها. وإذا كان العرب قد استبشروا خيرا من مجرد فشل رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو فى إقناع أوباما بالتسويف فى تحريك قضية الشعب الفلسطينى لصالح ملف إيران النووى، فعلى العرب أن يتذكروا أن ذلك هو الحد الأدنى الذى تبنته إدارة بوش نفسها فى هذه القضية دون جديد، وأن اللوبى الصهيونى الأمريكى لم يبدأ هجومه المضاد بعد. كذلك فإن حالة الانقسام العربى المؤسسة على الانقسام الفلسطينى وبالعكس هى بمثابة حصان طروادة الذى يمكن لإسرائيل أن تنفذ منه لتشتيت مفاوضات الحل النهائى. أما أوباما فتوقعاته غير خافية: تحالف عربى إسلامى شامل يتمسك بأجندة الاعتدال ويواجه نفوذ إيران المتنامى، تحالف يمتص المقاومة الفلسطينية ويروضها، ويقضى على التطرف الدينى وعقيدة الجهاد وتجلياتهما فى العراق وأفغانستان والمغرب العربى وأوروبا، ويضمن الاستقرار الذى يؤمن المصالح الأمريكية فى كل مكان. وبما أن إيران وهى أيضا حاضنة للتطرف فلا بأس من التعاون على محاصرتها وعزلها بل وتأييد ضربها إذا لم تُجدِ جهود الحوار معها سبيلا. ذلك التحالف سيؤدى إلى إضعاف القاعدة وطالبان والجماعة الإسلامية، مرورا بحماس وحزب الله وتوابعهما. وتلك أجندة جذابة تنسجم مع روح الإسلام وتعاليمه ومصالح دول الاعتدال، ولن يجد كتبة خطاب أوباما أى صعوبة فى الاستشهاد بآيات كريمة من القرآن وأحاديث موثقة لتأكيدها. وليس من شك فى أن الرئيس أوباما يرغب فى صياغة عقد سياسى استراتيجى جديد يقضى على التطرف والإرهاب «الإسلامى» ومقاومة النفوذ الأمريكى من جهة، ويؤمن الحد الأدنى من المصالح العربية فى المقابل. وهناك الكثير من المصالح العربية والإسلامية الأمريكية المشتركة وعلى رأسها ضمان إمدادات البترول والغاز وإدماج مصادر الثروة العربية المنبثقة منهما فى منظومة العولمة التى تتزعمها الولاياتالمتحدة التى غامرت بغزو العراق لتأمين تلك المصالح. المشكلة الحقيقية هى أن المصالح المشتركة على تعددها وتنوعها لا تستند إلى منظومة قيم مشتركة تربط بين الثقافات والشعوب، وتشكل الإرادة السياسية الحرة للشعوب العربية والإسلامية. على الجانب المقارن فإن الحلف الأمريكى الإسرائيلى يستند على قناعة عامة بين أفراد الشعب الأمريكى بأن إسرائيل تنتمى إلى نفس منظومة القيم السياسية والاجتماعية والدينية والثقافية والعلمية التى يفخر بها الأمريكيون، بالإضافة إلى التجربة التاريخية المشتركة غير المعلنة فى تطهير أرض من شعب ليحل محله مهاجرون من شتى أنحاء العالم يقيمون دولة عصرية قوية قادرة على الدفاع عن وجودها. هناك بالطبع جدل طويل وحقيقى حول تاريخ إسرائيل وحقيقتها وقيمها العنصرية، لكن الأمريكيين لا يسمعون فى إسرائيل عن انتخابات مزورة تجرى فى ظل إرهاب قوات الأمن، ولا تعديلات دستورية ملتوية مفصلة على المقاس، ولا سيناريوهات توريث، ولا قمع للمعارضة بقوة الدولة الغاشمة، ولا حكم طوارئ ممتد ولا اختفاء قسرى أو اعتداءات مجهولة على المعارضين ولا انتهاكات منتظمة لحقوق الإنسان كسياسة غير معلنة لنظم الحكم. فى إسرائيل الآن رئيس سابق للدولة تم عزله وتجرى محاكمته بتهمة هتك العرض، ورئيس الوزراء السابق محل تحقيق من قبل البوليس منذ أن كان فى منصبه ولا يزال قيد التحقيق بتهم الرشوة والفساد السياسى. كم من الحكومات العربية والإسلامية اليوم يمكنها أن تفخر بأنها جاءت إلى الحكم عبر انتخابات حرة، نزيهة ونظيفة؟.. هذا هو المحك. الرئيس أوباما إذن سيوجه خطابه إلى حكومات عربية وإسلامية مستقرة فى معظمها على عروشها بقوة القمع والشرعية المزيفة، والى شعوب مغلوبة على أمرها، والى إحدى المناطق الأكثر حساسية فى العالم التى ما زالت منذ عقود طويلة تمر بمخاض أليم وعنيف للتحول من ميراث الدولة العثمانية، واستغلال الحقبة الاستعمارية، والتراث القبلى، إلى الحداثة. وعندما يلقى الرئيس أوباما خطابه الشامل فإنه سيأمل فى أن تكون حسن النوايا والتأكيدات التى سيتضمنها الخطاب بداية لعلاقات جديدة مستقرة مع العالمين العربى الإسلامى تؤكد على رسوخ المصالح المشتركة، وتدعم قوى الاعتدال، وتعزل قوى التطرف والإرهاب التى تهدد الاستقرار والاعتدال. لكن ما على أوباما أن يدركه هو أن الإرهاب لا يولد فى المساجد أو من منابرها، ولا فى مدارس تحفيظ القرآن ولا حتى فى اجتماعات الجماعات الدينية، وإنما ينبت كثمرة شريرة فى غياهب المعتقلات السياسية، وفى حضن الإجراءات الأمنية الاستثنائية وفى غرف التعذيب وفى سياسات الاحتكار الاقتصادى والتهميش السياسى والاجتماعى والتنموى التى يعانى منها مئات الملايين من المحرومين. تلك هى التربة الخصبة لنمو فكر الإرهاب وممارساته، مما يجعله ظاهرة سياسية أكثر منه مشكلة أمنية، على عكس قناعات الفكر الأمنى. وعندما يتناول أوباما قضية القوى الراديكالية فى المنطقة فعليه أن يدرك أن إيران هى أيضا دولة إسلامية كبرى قد تزيد أهميتها بكثير عن قوى الاعتدال لأنها عنصر مؤثر فى العديد من مشاكل الشرق الأوسط الكبير بما فيه العراق وأفغانستان وفلسطين ودول الخليج. وعلى أوباما لذلك أن يعمل على اعتماد سياسات لاستمالة قوى الممانعة بقدر دعم قوى الاعتدال، لأن سياسة المواجهة بين الطرفين لن تؤدى إلا إلى المزيد من التعقيدات. إن مشكلة البرنامج النووى الإيرانى الذى لم تفلح الدعاية الإسرائيلية حتى الآن فى إثبات أنه يطور لأغراض عسكرية إلا فى حدود تخمين النوايا هو قضية دولية بقدر ما هو مواجهة إقليمية. ولن يتم حسم هذا الأمر إلا بمبادرة دولية تتبناها الولاياتالمتحدة والدول النووية الكبرى بإعلان الشرق الأوسط منطقة محظورة على تطوير وامتلاك أسلحة الدمار الشامل ووضع نظام دولى صارم تحت مظلة مجلس الأمن وعقوباته للتفتيش على الدول التى تملك إمكانات تطوير هذه الأسلحة، وعلى رأسها إسرائيل وإيران. وإلا فإن التعامل بمكيالين لن يثمر إلا المزيد من التطرف.