لم تغيّر مائة عام كاملة موقف الكنيسة الأرثوذوكسية من أحد أعظم كتّاب الرواية فى التاريخ «ليو تولستوى»، إذ تمسّكت برفض مراجعة موقفها من الكاتب الذى لعنته بعد نشره روايته «البعث» عام 1899 ونقده لتسلط الكنيسة وقتها، متجاهلة بذلك مطالبات عدد من المثقفين الروس البارزين بإعادة الاعتبار له، وآخرها خطاب كتبه سيرجى ستيباشين رئيس الوزراء الأسبق ورئيس اتحاد الكتاب الروس حاليا، إلى أسقف الكنيسة الارثوذوكسية طالبا فيه الصفح عن تولستوى، الذى طرد من الكنيسة قبل 110 سنة. ولم يشفع لتولستوى (1828 1910) موته بين الفقراء الذين آمن بحقهم، بعد أن تخلى عن طبقته الارستقراطية العريقة دفاعا عن مبادئه التى غيّرت تاريخ روسيا والعالم أجمع، واعتبرت الشرارة الأولى للثورة البلشفية فيما بعد. وكانت الأزمة بينه وبين الكنيسة قد بدأت بعد أن نشر خطابه «اعتراف» فى 1884 معلنا فيه أنه وجد معنى الحياة فى معيشة الفلاحين الروس، الذين أخبروه أن كل فرد لابد أن يخدم الرب، لا أنفسهم، فانشق بعد ذلك عن الكنيسة رافضا سلطتها المطلقة والدولة. وقالت الكنيسة فى ردّها الذى نشر فى صحيفة «روسيسكايا جازيتا» المملوكة للدولة ونقلته عنها صحيفة النيويورك تايمز الأمريكية: «الروس مسموح لهم بتلاوة صلوات فردية لتولستوى فى الذكرى السنوية لوفاته»، ورغم تقديرها ل «أعمال تولستوى الرائعة التى لا تنسى» وصفته ب «الشخصية الأكثر مأساوية فى تاريخ الأدب الروسى، فقد استخدم بصورة متعمّدة موهبته العظيمة لتدمير القيم الروحية التقليدية والنظام الاجتماعى لروسيا، وأنه لم يكن من قبيل المصادفة أن يقدّر قائد الثورة البلشفية نشاط ليو تولستوى. لذا لن تضاء الشموع ولن تتلى الصلوات عليه داخل الكنيسة الأرثوذوكسية». وبرر سيرجى ستيباشين تجديده للمطالبة بالصفح عن تولستوى قائلا: «عندما تزور بيته الذى عاش وعمل فيه، وأنتج فيه كل أعماله، ثم تأتى إلى هذا المكان الذى يخلو من شاهد قبر حتى، ولا يوجد به سوى كومة مرتفعة من التراب، تتملكك الحيرة بشأن التدهور الأخلاقى والإنسانى، ومن ثم قررت أن أكتب هذه الرسالة». وكان حفيده فلاديمير تولستوى قد أرسل خطابا مشابها قبل عشر سنوات للكنيسة ولم يتلق أى رد، هذه الحادثة دفعت ستيباشين إلى توقع رفض الكنيسة الغفران لتولستوى، لكنه قال: «أنا سعيد باحتواء الخطاب على بعض المديح لتولستوى». لم يكن هذا هو الهمّ الوحيد الذى أحاط بجثمان صاحب «الحرب والسلام»، فلم ينج من تقلبات الساسة، هذا ما رصدته النيويورك تايمز فى تغطيتها لاحتفالات مئوية تولستوى فى بلد «انادرا ما تفوّت الاحتفالات العامة، فلم تشهد ذكرى وفاته أى نوع من الفعاليات الصاخبة أو الأفلام السينمائية، التى تمولها الحكومة، بل أشير إليها بالكاد». وأشارت الصحيفة إلى تراجع اهتمام الحكومة الروسية بتولستوى قائلة: «هذا التجاهل أمر جديد على روسيا، فقد أحب لينين (الكراهية المكبوتة) لدى تولستوى، ووصفه بأنه مرآة الثورة الروسية متجاهلا مسالمته وإيمانه بالله، ولدى اقتراب الذكرى الخمسين لوفاته بدأت اللجنة المركزية للحزب الشيوعى فى الإعداد لها قبلها بعامين، ليتم كشف النقاب عن التمثال، الذى أقيم له بهذه الذكرى بيد أن الأمر تحوّل إلى النقيض خلال الاحتفال بالذكرى المئوية لرحيله». وأرجعت النيويورك تايمز هذا التراجع إلى «قلق روسيا من الفكر الطوباوى الذى احتفى به تولستوى فى كتاباته (حتى أن أعظم زعماء العالم الروحيين مثل الماهاتير غاندى ومارتين لوثر كينج كانوا من مريديه) وفى المقابل أقيمت احتفالات صاخبة فى الذكرى ال150 لرحيل الكاتب أنطوان تشيخوف، كان من بينها زيارة الرئيس الروسى ميدفيديف إلى مسقط رأس تشيخوف». وأختتمت الصحيفة بأنه رغم عرض الفيلم الملحمى «المحطة الأخيرة»، الذى يروى الأيام الأخيرة فى حياة تولستوى، فى موسكو قبيل الاحتفال بذكرى رحيله، فإن الفيلم الذى صورت أحداثه فى ألمانيا وشارك فيه ممثلون بريطانيون وقام بإخراجه مخرج أمريكى، لم يجد العون من الحكومة الروسية مطلقا، إذ روى منتج الفيلم الروسى أندرى كونتشالوفسكى، أنه التمس العون من كل وزارة فى الحكومة، لكنه أجبر فى النهاية على استثمار أمواله الخاصة بالفيلم، وقال: «أنا أمثل روسيا».