عندما عشت فى ألمانيا فى التسعينيات من القرن الماضى، عززت عودة العاصمة من بون إلى مسرح الجريمة، برلين، من التعذيب حول إحياء ذكرى الهولوكوست. وكان الألمان تواقين ل«Schlussstrich» إغلاق صفحة هتلر برغم علمهم باستحالة هذا. وقد أقيم نصب تذكارى كبير فى برلين، لكن كان هذا بعد أن أثار الكاتب البارز مارتن فالزر الغضب بالتظاهر ضد «العرض المستمر لعارنا» واستخدامه أوشفيتز «كسند أخلاقى». وإغلاق مسألة المجازر الجماعية التى ارتكبها النازى أمر مستحيل بالطبع. فليس هناك شىء اسمه الشعور الموروث بالذنب، ولكن المسئولية الموروثة تبقى. وعبر المسئولية، بنى الألمان واحدة من أفضل ديمقراطيات العالم، وهى أعجوبة خرجت من بين الرماد. وفى المرآة الألمانية، فإن إسرائيل ديمقراطية أخرى نابضة بالحياة خرجت من رحم الجريمة، وإن كانت، على عكس ألمانيا، لم تعرف التعايش السلمى. كما أن إسرائيل تتوق أيضا إلى طى صفحة ماض يطل منها شبح الإبادة. وعلى حد قول شلومو أفنيرى، عالم السياسة، فإنه لم يكن مفترضا أن تُخْرِج إسرائيل اليهود من المنفى فحسب، بل أن تضمن كذلك أن المنفى «نُزِع من الشعب اليهودى». وهو ما لم تفِ به إسرائيل بعد 61 عاما من قيامها. ولا يخيم الشك على البلاد بقدر ما يسكن داخل نسيجها نفسه. فهناك دائما تهديدات وجودية من إيران، ومن حماس، وحزب الله. ويرفض رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو حتى الآن تأييد مجرد فكرة الدولة الفلسطينية، حتى بدون مناقشة إمكانية قيامها. وأنا أفكر فى قلق إسرائيل الحاد منذ قرأت رد إران ليرمان، مدير مكتب إسرائيل الشرق الأوسط باللجنة الأمريكية اليهودية، على أعمدتى الأخيرة حول إيران. ويدور ما كتبه ليرمان حول ابنته «الضعيفة» ذات السبعة عشر ربيعا، التى تسأله، على حد قوله، عما فعله «ليضمن بلوغها الخامسة والعشرين»، بسبب أحاديث إيران المتكررة عن الإبادة وبرنامجها النووى. وتواجه إسرائيل «ببساطة تحدى البقاء وسط بيئة معادية»، على حد قول ليرمان. لكن المسألة ليست بهذه البساطة. فما هو مقدار الخوف الذى يمكن أن يشعر به مراهق إسرائيلى بحق، وإلى أى مدى هو مسكون بالرعب الوجودى القديم، وحالة الضحية الأبدية، والخوف من المحرقة ومن عدم قدرة إسرائيل على تحقيق الخلاص؟ صحيح أن إسرائيل صغيرة كل الأرض الواقعة بين نهر الأردن والبحر المتوسط تزيد بالكاد على مساحة ولاية ميريلاند الأمريكية وتعيش وسط بيئة معادية. وهذا يجعل إسرائيل عرضة للخطر، كما يشير الرئيس الأسبق جيمى كارتر فى كتابه الجديد. لكن، وكما يقول كارتر أيضا، فإنه «من الممكن تحقيق السلام فى الأرض المقدسة». ولإسرائيل «قوتها العسكرية الحديثة، عالية التدريب، التى تتفوق على قوات كل خصومها مجتمعين». ولا يقف الأمر عند هذا، فإسرائيل تمتلك ترسانة نووية رهيبة. كما أنها وقعت معاهدات سلام مع مصر والأردن، وتحظى بضمان أمريكى قوى لأمنها، وأقامت الجدران والأسوار، ووضعت الحواجز ونقاط التفتيش التى تحكم الخناق على 4 ملايين فلسطينى فى الضفة الغربية وقطاع غزة؛ ويعتبر عدواها، حزب الله وحماس، نفسيهما منتصرين فى الحربين الأخيرتين لأن إسرائيل فشلت فى القضاء عليهما. وإسرائيل بها أكثر مجتمعات المنطقة ديناميكية وإبداعا، وهى مجتمع لا يخضع فيه الصحفيون الأمريكيون للمحاكمات السرية المخزية، مثلما فعلت إيران مع الصحفية الأمريكية روكسانا صابرى؛ ولم تدخل أبدا فى حرب مع إيران؛ فهى تعلم برغم كل الضجيج أن فارس، الموجودة منذ أكثر من 3000 عام، لا ينبغى أن تجعلها تعجل بالانتحار بارتكاب حماقة عسكرية. ولا شك فى أن ليرمان قد أبلغ ابنته ببعض من هذا. ولا شك أن ذلك قد هدأ من روعها. فالخوف هو أسوأ الأسس. وبعيدا عن إيران، والتشبيهات النازية المستهلكة التى تنسب بصورة مضللة إليها، هناك تهديد آخر. وكما قال لى مؤخرا جارى سيك، الباحث والكاتب البارز فى شئون الشرق الأوسط، فإن «أكبر خطر على إسرائيل هو إسرائيل نفسها». وهنا يكمن التناقض الرئيسى فى السياسة الإسرائيلية. فبينما كانت إسرائيل تتحدث عن حل الدولتين حتى عودة نتنياهو على الأقل كانت تواصل بناء المستوطنات فى الضفة الغربية على نحو يجعل التوصل لاتفاق سلام أمرا مستحيلا، بعد أن قامت بتفتيت ال23% من الأرض المخصصة لإقامة فلسطين. وكما لاحظ إيهود باراك، وزير الدفاع الحالى، فى عام 1999، فإن «كل محاولة للاحتفاظ بهذه الأرض ككيان سياسى واحد ستؤدى، بالضرورة، إما إلى دولة غير ديمقراطية أو غير يهودية، لأن الفلسطينيين إذا صوتوا، فسيكون تصويتهم لدولة ثنائية القومية، وإذا لم يصوتوا فستكون الدولة عنصرية». وهذا صحيح. فعدد السكان العرب فى الأراضى المقدسة، الذين يبلغ عددهم 4.5 مليون، سيفوق عدد اليهود يوما. ومن هنا، فإن حل الدولتين ضرورى من أجل بقاء إسرائيل دولة يهودية. واستمرار الاحتلال لاثنين وأربعين عاما وبناء المستعمرات ينخر ركائز الحلم الصهيونى نفسها. ويريد نتنياهو الآن من القيادات الفلسطينية فى الضفة الغربية، التى تعترف بإسرائيل، المزيد بالاعتراف بها كدولة يهودية، حتى قبل أن تقبل هى بالدولة الفلسطينية المفترضة. وهذه علامة على مأسسة الاحتلال الإسرائيلى المذعور. إن غلق صفحة الماضى هو قهر للرعب والفزع الذى يعيش فيه الإسرائيليون. إنه تحقيق الحياة الطبيعية عبر المسئولية. ولا يمكن تحقيق هذا عبر تضخيم التهديدات، وإدامة المخاوف، أو الانسحاب إلى حالة الضحية التى ترى فى كل عمل، بغض النظر عن درجة عنفه، عملا من أعمال الدفاع. من الهيرالد تريبيون New York Times Syndication