أعتذر لقرائى الأعزاء عن غيابى عنهم فى الأسبوع الماضى بسبب الإرهاق الشديد بعد ثلاث سفرات مهمة دعيت اليها وكان لابد أن ألبيها، فقد سافرت خلال الشهر المنصرم إلى مدينة لينز بالنمسا ثم الى مدينة الأقصر ومنها الى بيروت عاصمة لبنان، أما لينز فكانت لحضور المؤتمر السنوى لمنظمة الكتاب العالمية ( القلم ) التى أتشرف برئاسة فرعها فى مصر، وقد تكون الوفد المصرى من الدكتورة منى ميخائيل الأستاذة بالجامعة الأمريكية والكاتب الأديب فؤاد قنديل وأنا. ومنظمة القلم الدولية أسستها عام 1921 سيدة إنجليزية تدعى دوسون سكوت بهدف خلق مجتمع من الكتاب من جميع بلدان العالم يرتقون بالأدب ويدافعون عن حرية التعبير، وهى منظمة غير حكومية ولا علاقة لها بالسياسة ولا تضع أية شروط لقبول الأعضاء سوى أن يكونوا ممن يتعاملون بالقلم ويلتزمون بمبادئها وهى الدفاع عن الأدب والثقافة والكُتاب، ويبدو أن دعوة السيدة الإنجليزية قد صادفت هوى لدى الكتاب ، وجاءت فى موعدها، فقد لبى دعوتها كُتاب من جميع أنحاء العالم وظلت الفروع تتزايد حتى وصلت اليوم الى 145 فرعا فى 104 بلاد، أهم ما يثير فى هذه المنظمة العالمية من اهتمام هو إيمان أعضائها بقدرة الأدب والأدباء (كتابا، محررين، مترجمين ) على فهم والتعامل مع الآخرين، وأن لا أحد يمكنه تغيير وترقية المجتمع المدنى أكثر من الكتاب حتى لو تعاملوا مع مجتمع يسوده حكم استبدادى وتتفشى فيه الأمية. وعلى مدى ما يقرب من تسعين عاما كانت منظمة القلم الصوت القوى الذى ارتفع احتجاجا على الرقابة السياسية على الكتابة ودفاعا عن الكاتب، والوقوف بقوة ضد إيذاء الكُتاب وسجنهم أو قتلهم بسبب ما يكتبونه من آراء. وقد تعاقب على رئاسة المنظمة كبار الكتاب فى العالم ومن بينهم ألبرتو مورافيا، وهنريك بويل، وآرثر ميللر، وماريو فارجاس، ومن بين أعضائها البارزين جوزيف كونراد، وبرنارد شو، و ه. ج ويلز، وأناتول فرانس وتوماس مان وبول فاليرى. وكانت مصر من أوائل الذين انضموا اليها وأنشأ كتابها فرعا لها فى القاهرة، وقد تواكب على رئاسة الفرع المصرى كل من يوسف السباعى، ومرسى سعد الدين وأنيس منصور، وأخيرا نجيب محفوظ ثم الدكتورة فاطمة موسى. لقاء الكتاب السنوى الذى تعده الجمعية العمومية للمنظمة ويتكون من مندوبين عن كل الفروع، هو السلطة الأعلى للمنظمة حيث تحذف وتضاف مواد إلى لائحتها الأساسية ويتم انتخاب رؤساءاللجان وأعضاء المجلس التنفيذى بتصويت علنى. ومن خلال اللقاء السنوى لأعضاء المنظمة والأنشطة التى تتم أثناءه، يتم التعارف وتبادل الآراء والكتب وبناء جسور التفاهم والتواصل بين كتاب العالم، وقد تمكن الفرع المصرى من إضافة العديد من القرارات التى وافق عليها الأعضاء بأغلبية كبيرة ضد تعسف اسرائيل فى معاملة الكُتاب والطُلاب الفلسطينيين وضد الجدار الذى بنى ليفصل بين القرى الفلسطينية، وفى اللقاء قبل الأخير أحبطنا قرارا تقدم به الفرع الألمانى بإيعاز ومشاركة من الفرع الإسرائيلى يقضى بفصل أى عضو لا يعترف بالهولوكوست، وهو ما يتعارض بشكل سافر مع المبدأ الأول للمنظمة: الدفاع عن حرية التعبير وحق الكاتب فى حرية التفكير!! توفيقى فى إلغاء القرار كان الفصل الثالث من مسلسل علاقتى بالهولوكوست، وتلك حكاية مثيرة تذكرتها وأنا أتجول فى معتقل موت هاوس الذى دعينا لزيارته أثناء وجودنا بالنمسا، ويبدو أنه تقليد مع كل الزائرين الرسميين للنمسا كما حدث مع الرئيس الأمريكى أوباما، الذى صحبته المستشارة أنجيلا ميركل إلى معسكر بوخنفالد النازى الذى أعدم فيه بالغاز نحو 56 ألف يهودى، لا يمكن أن ننسى كيف وقف أوباما يومها بين اثنين من المعمرين اليهود يستمع لذكرياتهما حول ما فعله النازى بآبائهم.. ويقول لن أنسى وهو يضع وردة بيضاء على قبر رمزى لضحايا الهولوكوست، بينما رددت ميركل فى خشوع إننا نحن الألمان نحتفظ بالذاكرة حية كى لا يتكرر ذلك أبداً. وقد حرص الرئيس الأمريكى الجديد على ذكر الهولوكوست فى خطبته، وهو يخاطب المسلمين والعرب من قلب العاصمة المصرية، رغم أن المسلمين لا علاقة لهم بما جرى لليهود فى الهولوكوست. إن عجائز اليهود مازالوا يحتفظون فى ذاكرتهم بتفاصيل الأهوال التى لاقوها منذ بزوغ الحزب النازى فى ألمانيا. واستطاع اليهود أن يجعلوا من الهولوكوست صنما يكفر كل من يحاول مناقشة أو فحص حقيقته، حتى أن الحكومة الفرنسية (العلمانية) لم تتردد فى إصدار قانون يجيز الحكم بالسجن على من ينكر الهولوكوست، ولا أستبعد أن يمتد القانون إلى جميع الدول الغربية عن طريق الاتحاد الأوروبى. أما الفصل الأول من حكايتى مع الهولوكوست فيدل على ما وصلت إليه العقلية الأوروبية من خوف شديد من وسائل الضغط التى يتبعها اليهود لكى ينمو ويتفاقم الإحساس بالذنب لدى الأوروبيين وقد شاء القدر أن أتذوق جرعة من هذا الضغط الرهيب، ولكن قبل أن أسرد حكايتى مع الهولوكوست هناك حقيقتان لابد أن أشير إليهما: أولاهما: أن الأوروبيين ارتكبوا أخطاء جسيمة فى حق اليهود على مدى قرون طويلة، وبلغت ذروة الاضطهاد والقهر فى الثلاثينيات من القرن العشرين بقوانين أصدرتها الحكومة الألمانية النازية فى نورمبرج (15 سبتمبر 1935) تقضى بحرمانهم من الحقوق المدنية وحظر الزواج أو العلاقات الجنسية بين اليهود والمسيحيين والتعامل معهم أوتعيينهم فى الوظائف.. إلخ. وقد طبقت تلك القوانين بكل حزم وكانت من بين أسباب هجرة اليهود الى البلاد العربية، بإيعاز وتحريض من شخصيات يهودية عديدة كان أبرزها اللورد بلفور الذى أصدر وعده الشهير عام 1917.. فى أول أبريل 1925 دشن الجامعة العبرية بالقدس، ولم يغفل الفلسطينيون عما يعنيه ذلك من تهديد لوطنهم فثارت مصادمات عربية يهودية أمام حائط البراق (المبكى) فى 29 أغسطس 1929، ومن يومها لم تتوقف الحرب السجال بين دولة إسرائيل والعرب، فالحزب النازى إذن كان وراء هجرة اليهود إلى فلسطين ورغم ذلك كان العرب يشجعونه ويدعون له ويهتفون للقائد النازى إلى الأمام ياروميل! فهل كان آباؤنا يعلمون الفظائع التى ارتكبها النازى فى الدول التى احتلوها وفى معسكرات الاعتقال؟ هل كانوا يدركون أن النازى بقيادة هتلر وأتباعه من روميل وغيرهما ارتكبوا جرائم ضد البشرية لم يرتكبها أى نظام سياسى فى التاريخ؟! أما الحقيقة الثانية فهى أن الأوروبيين فى العصور المظلمة والوسطى قمعوا وقهروا كل من خالفهم فى الدين والعقيدة وعلى الأخص اليهود، ولم يتورعوا عن تعذيب وحرق مسيحيين أحياء لاختلافهم فى الطائفة. لقد فتشوا فى عقول الناس وأدانوا كل من تفوه بكلمة أو عبارة أو سلك مسلكا رأوه مخالفا للعقيدة كما رأوها، وأقاموا محاكم علنية لإرهاب الناس كانت تصدر أحكاماً مرعبة مثل الموت حرقا أو صلبا أو رجما أو على الخازوق.. إلخ. إذن فمسألة الهولوكوست شأن أوروبى بحت، لا داعى لأن ننكره نحن العرب وليس من شأننا أن نتصدى للدفاع عن الأوروبيين الذين أذاقونا الأمرين كغزاة ومحتلين منذ اندلاع الحروب الصليبية حتى منتصف القرن الماضى، على مدى ما يقرب من عشرة قرون. بدأ الفصل الأول من حكايتى مع الهولوكوست فى عام 1985 عندما دعيت إلى مدينة أمستردام لأشارك فى ندوة تقيمها الجامعة الرسمية حول الإسلام فى شمال أفريقيا. أما سبب اختيارى فقد كان مكافأة على فوز ورقة قدمتها فى مؤتمر الأممالمتحدة عن المرأة عام 1985 بواحدة من أفضل الأوراق التى قدمت فى المؤتمر، ألقيت المحاضرة فى الجامعة وتلقيت عبارات الثناء والاستحسان من عدد كبير من الحضور. وفى الصباح المبكر من اليوم التالى زارنى اثنان من الصحفيين فى الفندق وطلبا إجراء حوار معى، ولم أرفض بالطبع ، فقد كنت قد وقعت عقدا مع أهم ناشر فى المدينة لترجمة رواياتى وكل كتبى إلى اللغة الهولندية وبعدها إلى الإنجليزية، نزلت إلى بهو الفندق لأجد شابين فى الثلاثينيات من عمرهما أحدهما صحفى والآخر مصور لم يتوقف عن التقاط صور لى من جميع الجهات، ودار الحديث بطريقة ودية وأجبت بصراحة حول كل ما سألانى عنه الى أن سألنى الصحفى: ما رأيك فى الصراع الإسرائيلى - الفلسطينى؟ قلت : مادامت إسرائيل تلقى الدعم المعنوى والمادى من أوروبا والولايات المتحدة فسوف يمتد الصراع ويتواصل الى مالا نهاية. قال الصحفى: ولماذا لا يكف الفلسطينيون عن إثارة المتاعب؟ قلت: لأنهم شعب عانى من ظلم فادح، فقد طرد من بلاده ويرغب فى العودة إليها، وردا على سؤال عن الحل لهذه المسألة الشائكة أجبت: إن الحل الوحيد فى رأيى هو السماح للاجئين الفلسطينيين بالعودة إلى ديارهم وممارسة حقوقهم كمواطنين وليبق اليهود ماداموا يرغبون فى العيش بفلسطين، وفى ظل دولة ديمقراطية، سيحكم البلاد من يحصل على أغلبية الأصوات. فجأة سألنى الصحفى الهولندى الحصيف: ما رأيك فى الهولوكوست؟ فقلت إنى لا أشك فى وجود معتقلات أنشأها النازى لسجن وتعذيب وإبادة المعارضين لهم، فالمعتقلات لم تقتصر على اليهود وحدهم، وكان بها جنسيات أخرى عديدة، ولكن اليهود استغلوا تلك المعتقلات لكى يقيموا دعاية هائلة لدولتهم وقد جنت إسرائيل أموالا طائلة بناء على تلك الدعاية. وبسذاجة مفرطة، أضفت إن إسرائيل تدعى أن عدد الذين أعدموا بالغاز فى تلك المعسكرات يبلغ ستة ملايين يهودى، وأرى أن هناك مبالغة شديدة فى هذا العدد، فكم كان عدد يهود العالم فى ذلك الوقت؟ وهنا تكهرب الجو وأنهى الصحفى اليهودى الحوار فوراً، وفى الصباح التالى وجدت صوراً عديدة لى فى كل الصحف الهولندية والعنوان الرئيسى: الجامعة تستضيف كاتبة متطرفة.. وهجوما شرسا على من الصحافة الهولندية كلها، وفى اليوم التالى شارك القراء فى طوفان الشتائم والاتهامات الموجهة إلى شخصى الضعيف. لم أكترث كثيرا، ولكنى صدمت فى الديمقراطية الأوروبية، هاهم يرفضون بشدة الرأى المختلف، وهاهم يوجهون اتهامات جزافية إلى كاتبة عربية لمجرد تعاطفها مع القضية الفلسطينية. أما الطامة الكبرى فقد جاءت فى خطاب سلمه لى موظف الاستقبال فى الفندق كان باللغة الإنجليزية ومفاده أن الناشر يعتذر عن نشر كتبى ويرجونى أن أعتبر الاتفاق معه كأن لم يكن!! وأما الفصل الثانى والمفاجأة الأكبر فقد حدثت بعد عودتى إلى مصر، عندما طرق باب شقتى رجل أشقر قدم لى نفسه على أنه هولندى شهد محاضرتى فى الجامعة، وأعجب بها جداً وغضب أشد الغضب من الهجوم الشرس الذى شنه اليهود الهولنديون علىَّ، وراح يكيل لهم الاتهامات بالتعصب والجهل.. إلخ ثم قدم لى نسخا من الجرائد الهولندية التى هاجمتنى، وسألنى: هلى تجيدين اللغة الهولندية (الدتش) فكانت إجابتى بالنفى، عندها اقترح الرجل المجهول (بشهامة) أن أعطيه الكتاب الذى أصدرته الجامعة تكريما للفائزات بجائزة أفضل ورقة فى المؤتمر الدولى لكى يترجم لى الحوار الذى أدير معى، ومرة أخرى وبسذاجة مفرطة سلمت الرجل الأشقر الكتاب، فأخذه ومضى على أن يعود بعد يومين، ولم أر وجهه بعدها أبدا، ولا النسخة الوحيدة من الكتاب!! وهكذا تلقيت الدرس القاسى حول حرية التعبير كما يفهمها الهولنديون وغيرهم من الغربيين الذين لا ينفكوا ينتقدون الاستبداد وغياب حرية التعبير فى العالم الإسلامى! ولكن هذا كله لم يمنع غضبى واستيائى وقرفى وكل مشاعر السخط والرفض التى انتابتنى وأنا أتجول مع زملائى أعضاء منظمة القلم فى معسكر الإعدام موت هاوس بمدينة لينز التى خصها هتلر بأكثر من معسكر.. حرص المرشد الشاب الذى تجول بنا فى المعسكر أن يذكر الجنسيات الأخرى العديدة التى عذبت بضراوة وأعدمت فى المعسكر ومن بينهم ألمان مسيحيون! أما أفران الغاز فقد سببت لى غصة وستلاحقنى كالكوابيس مدى حياتى، وقد دعوت الله وأنا أهرول خارجة من ذلك المكان المشئوم أن يحيق أشد العذاب بكل من عملوا بها ونفذوا قرارات النازى الوحشية، وأن يلقى نفس المصير كل زبانية التعذيب فى كل سجون العالم بالعراق وفلسطين وجوانتانامو وغيرهم. اللهم آمين.